الديوانية- منار الزبيدي
عندما بدأت نور نافع الجليحاوي مسيرتها المهنية لم تكن تعلم أن التحولات التي سوف تمر بها البلاد سوف تأخذها من العمل في القطاع الخاص إلى العمل السياسي وصولاً لتمثيل العراقيين تحت قبة مجلس النواب.
غير أن العراقية البالغة من العمر 32 عاماً والتي تعد أصغر النواب سناً تواجه اليوم تحديات مختلفة في عملها البرلماني تعزوها لكونها امرأة أولاً، ومن جيل الشباب ثانياً، ولكن وقبل كل شيء، لأنها تنتمي لشريحة من النواب المستقلين البعيدين عن أحزاب السلطة، أفرزتهم مظاهرات تشرين أول (اكتوبر) 2019.
تروي النائبة الشابة قصّة صعودها التدريجي إلى العمل السياسي بعد أن أنهت دراسة الماجستير في التاريخ من جامعة بوخارست في رومانيا. كحال الكثير من الشباب الذين تخرجوا في اختصاصات مختلفة لم تعثر نور على فرصتها في العمل الحكومي، “نحن جيل اللاتعيين” تقول واصفة أبناء جيلها المحرومين من فرص الحصول على وظائف حكومية.
أولى الأعمال التي قامت بها الجليحاوي بعد تخرجها كان افتتاح متجر لبيع العطور ومواد التجميل وكان ذلك بدافع الاعتماد على نفسها. “كنت من أوائل الفتيات اللواتي اقتحمن هذا المجال الذي كان حكراً على الرجال”.
كسر القيود الاجتماعية مثل تحدياً كبيراً لها، لكنها دعم والدتها وشقيقتيها مكّنها من النجاح في مشروعها، “والدتي -وهي معلمة مدرسة- افتتحت متجراً لبيع الورد الطبيعي إلى جانب متجري، ورغم ان وضعها الصحي لم يكن جيداً آنذاك كانت حريصة على التواجد معي طوال الوقت وعلى مرافقتي في العمل كل يوم”.
أسهم العمل الحرّ في بناء جانب من شخصية نور، لكن الظروف التي مرت بها الديوانية خلال السنوات الأخيرة من ارتفاع غير مسبوق في معدلات الفقر (47 بالمئة) وفي نسبة العاطلين عن العمل (35 بالمئة) دفعها للاهتمام بالشأن العام، فنشطت في عدد من منظمات المجتمع المدني وانخرطت العمل الإنساني التطوعي لتنضم أخيراً إلى الحراك الشبابي المستقل خلال المظاهرات التي اندلعت في جنوبي البلاد احتجاجاً على الواقع السياسي والخدمي.
“أسهم العمل في القطاع الخاص ببناء جانب من شخصيتي أما العمل مع مؤسسات المجتمع المدني فجعلني قريبة من فئات المجتمع واحتياجاته وذلك من خلال اللقاءات الجماهيرية والأعمال الانسانية ومراجعة المؤسسات الحكومية”.
البداية مع تشرين
وجدت الجليحاوي نفسها منخرطة بقوة وحماس في مظاهرات تشرين التي اندلعت في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 والتي طالب المتظاهرون فيها بإصلاح النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية وبتحسين الأوضاع المعيشية.
تستحضر تفاصيل تجربتها قائلة “لقد وجدت نفسي متظاهرة مع الشباب في تشرين وكنت متطوعة في أعمال كثيرة من دون ان يكلفني احد، فقد قمت بتحشيد النساء والفتيات للمشاركة في المظاهرات عبر قنوات السوشال ميديا ومن خلال التواصل المباشر مع الاقرباء والاصدقاء وزملاء العمل” وتتابع: “لقد كان دافعي ذاتياً ووطنياً بحتاً”.
لم تكن المشاركة النسائية فاعلة خلال الأيام الأولى لاندلاع ثورة تشرين، خاصة بالنسبة للفتيات، “إذ كانت الأوضاع مربكة وتزامنت مع حملات تسقيط وتشويه وتنكيل. أُضيف إلى ذلك زخم المعلومات المضللة وانتشار الصور والفيديوهات المركبة المسيئة عبر وسائل الإعلام المختلفة”، توضح الجليحاوي، مما دفع ناشطات عراقيات إلى إطلاق حملات رقمية لمساندة النساء والفتيات المشاركات في المظاهرات، ومنها حملة “الناشطات لسن هدفاً”.
ورغم الضغوطات الكبيرة التي تعرضت لها، نجحت نور في إقناع العشرات من النساء والشباب بالانخراط في المظاهرات ومساندة ثورة تشرين. تقول: “لم يكن ذلك سهلاً، لكننا تمكنا من تجاوز التحديات”.
الأهالي يريدون التغيير
“المشاهد البطولية والتحدي والإصرار والشعور الوطني الحماسي لدى المتظاهرين” على حد وصف الجليحاوي حفزتها على خوض التجربة السياسية، كما أن المشاركة في المظاهرات خلقت لديها وعياً سياسياً لم تمتلكه من قبل، “أصبحت مدركة لضرورة أحقية الشباب في ممارسة العمل السياسي” تقول، مؤكدة أن “الشباب العراقي الواعي لا يستحق التهميش والإقصاء، وكانت مشاركته في العملية السياسية ضرورية”.
تستذكر الجليحاوي أيام المظاهرات، خاصة خلال فترة الاعتقالات النشطة التي استهدفت شباب تشرين، خصوصاً المتظاهرين دون السن القانوني. تقول: “قررنا أن نطلق حملة سلمية نعرف فيها عن أنفسنا وبأننا لسنا مجرمين، فاتفقنا على رفع لافتة نكتب عليها ‘نريد وطناً’ لاقت أثرأ كبيراً لدى أهالي المحافظة”.
بيد أن أصوات الناخبين التي حصلت عليها الجليحاوي عند ترشحها ضمن قائمة “امتداد” المستقلة لم تكن أصواتاً “تشرينية” فقط، فقد كان هناك المئات من الناخبين الذين منحوها أصواتهم دون أن يكون لهم صلة مباشرة بتشرين. “الكثير منهم لم ألتقِ بهم من قبل، انتخبوني لأنهم كانوا يريدون التغيير ويبحثون عن مرشحين وطنيين مستقلين جدد بعيداً عن الأحزاب والجهات السياسية”.
صغيرة السن ومستقلة
عندما وصلت النائبة الشابة إلى البرلمان رفقة زملائها المستقلين كان عمرها 28 عاماً. “وجدت نفسي وسط معترك سياسي تحرّكه الكتل السياسية التقليدية وكنت أمام مهمة ثقيلة تتطلب مني أن أصارع وأتحدى الظروف لأثبت أني على قدر المسؤولية، إضافة إلى أن صغر سني واستقلاليتي السياسية شكلا تحدياً من نوع آخر”.
وتكمل: “في بداية عملي داخل مجلس النواب، كانت معاناتي كبيرة جداً حيث لم يكن لدى النواب، خاصة المخضرمين منهم، قناعة بوجود شباب صغار السن يشاركونهم في شؤون المجلس. كما أنهم لم يصدقوا أن خيارات الناخبين قد تتحول إلى شباب بهذه الأعمار، وكانوا مندهشين لهذا التحول”.
بسبب ذلك، واجهت نور الكثير من التحديات أبرزها “التهميش والإقصاء داخل مجلس النواب وكذلك الحال عند مراجعة الوزارات الحكومية. لقد كان أغلب الوزراء يعتقدون أنني موظفة لديها مشكلة تريد مقابلة الوزير”. لكن الحال لم يدم طويلًا، تضيف نور، “فقد تغيرت تلك النظرة تجاهي بعد أن أثبت وجودي بمرور الأيام”.
معارضة تواجه بالتهميش
خلال عملها البرلماني تبنت الجليحاوي عدداً من القضايا التي أثارت سخط القوى التقليدية المشاركة في الحكم، من بينها جمع توقيعات لرفض تعديل المادة (57) من قانون الأحوال الشخصية.
فقد استطاعت النائبة الشابة جمع أكثر من 81 توقيعًا رافضاً للتعديلات (من أصل 329 نائباً) وبالتالي خلق كتلة في البرلمان مناصرة لقضايا المراة، إلا أن الأمر الغريب كما تؤكد الجليحاوي هو أن “أغلب الموقعين كانوا رجالاً، فيما عارضت معظم النائبات وامتنعن عن التوقيع”. وتضيف: “كان الأمر مفاجئاً وصادماً بالنسبة لي، حيث كنت أعتقد أن مساندة قضايا المرأة أهم من التوجيهات الحزبية”.
برزت الجليحاوي أيضاً في البرلمان بمعارضتها لصيغة المحاصصة الطائفية فقاطعت كل جلسات انتخاب الرئاسات داخل مجلس النواب، بما فيها جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، “لأنها كانت عبارة عن حصص واتفاقات حزبية وسياسية” على حد وصفها.
تصف نور مشاركة المرأة في مجلس النواب بأنها “جيدة من الناحية العددية”، خاصة وأن عدد النائبات تجاوز الرقم المقرر وفق حصة الكوتا. وتعتبر ذلك “مؤشرًا إيجابيًا على أن أفراد المجتمع بدأوا يثقون بالمرأة وينظرون إليها بمنظار مختلف، ويرون أنها قادرة على تحمل المسؤولية وتمثيلهم في مجلس النواب”.
ومع ذلك، تشير الجليحاوي إلى أن أغلب النائبات يتبعن جهات حزبية وسياسية، وتقول: “تلك التوجيهات أغلال تقيد النائبات ولا يمكن لهن الخروج عنها أو معارضتها”.
وتنتقد الجليحاوي تقسيم المناصب النيابية داخل مجلس النواب على أساس التوافقات بين الأحزاب والكتل السياسية، والتي تتم بغض النظر عن إرادة النواب وتخصصهم. تقول: “بعض النائبات كلفن برئاسة لجان نيابية وفقًا للحصة الحزبية بعيداً عن رأي وقناعة وتوجه النائبة، مما ولد لجان نيابية ضعيفة الأداء. حيث أن بعض تلك اللجان التي تترأسها النساء لا تؤدي دورها ولا تحضر أحياناً في اجتماعات اللجنة. هذا نتاج التقسيم غير المستحق، وبكل تأكيد أنا مستبعدة في هذا التقسيم”.
اللجنة “مقبطة”
على الرغم من إصرارها على أن تكون إحدى عضوات لجنة المرأة النيابية، إلا أن طلبها بالانضمام تم رفضه في البداية ثم نجحت بعد ذلك في الانضمام للجنة. تقول الجليحاوي: “كانت اللجنة مفتوحة أمام جميع النائبات، ولكن عندما طلبت الانضمام قالوا إن اللجنة ‘مقبطة’ أي أنها مكتملة العدد”. وبابتسامة مليئة بالشك والاستغراب، تستذكر الجليحاوي تفاصيل الموقف: “لماذا أنا بالذات لم تتسع لي لجنة المرأة؟ ورغم أن سبب الاستبعاد كان واضحاً، إلا أنني كنت مصرة على خوض الصراع إلى أن حصلت على الموافقة”.
تضيف الجليحاوي: “ربما لأن أول قضية تبنيتها هي معارضة تعديل المادة (57) من قانون الأحوال الشخصية فقد تعالت حينها الأصوات التي عارضت انضمامي لعضوية اللجنة”.
تشعر الجليحاوي أن من مسؤوليتها كامرأة أملت عليها أن تكون في هذه اللجنة لتمثيل حاجات النساء في مجلس النواب، خاصة نساء الوسط والجنوب. وتوضح: “هناك الكثير من الكفاءات النسائية في تخصصات مختلفة، إلا أنني لاحظت إقصائهن من المشاركة في الجلسات التي يتم عقدها داخل مجلس النواب لمناقشة بعض القضايا ومسودات القوانين. ولهذا حرصت كثيراً على إشراك العديد من النساء والرجال المختصين والخبراء من أبناء المحافظات في عدد من الجلسات كلّ حسب اختصاصه”.
تروي الجليحاوي أحداث الجلسة التي تم تخصيصها لمناقشة مسودة قانون ذوي الإعاقة: “أغلب المدعوين كانوا يمثلون منظمات من بغداد ووجهت لهم دعوات بشكل خاص. الأمر الذي أثار حفيظتي ودفعني إلى العمل على إشراك مختصين وأفراد من ذوي الإعاقة من مناطق مختلفة لأن القانون يمثل حقوق الجميع. ومن غير المنصف تهميش وإقصاء أبناء المحافظات”. وتضيف: “نجحت أخيرًا في كسر الصورة النمطية المتبعة بشكل غالب داخل المجلس”.
لم يكن الحال بالنسبة للجلسات الأخرى المتعلقة بالمرأة مختلفاً فقد “كانت دعوات الاستضافة توجه لفئة معينة من النساء البارزات اللواتي اعتدنا رؤيتهن في جميع اللقاءات والاجتماعات” تقول الجليحاوي، وتضيف: “عدم الحيادية والميول الشخصي والتهميش والطبقية مظاهر موجودة داخل مجلس النواب”.
وتشير إلى أن “هناك نواباً لا يلتفتون لهذه التفاصيل، ولكن يجب على المشرع أن يكون حيادياً ويراعي مصالح الجميع”.
المستقلون محجّمون
تقول: “أفتخر بجهودي التي بذلتها للمساهمة الفاعلة في تشريع قانون ذوي الإعاقة وقانون الضمان والتقاعد، إضافة إلى قوانين أخرى دخلت حيز التنفيذ مثل قانون التنظيم النقابي”.
أما على نطاق محافظة الديوانية، فقد أسهمت الجليحاوي في فتح العديد من ملفات الفساد في قطاع البلدية والصحة ووزارة العمل وبعض النقابات، وكذلك ملف الاستيلاء على عجلات مجلس المحافظة السابق من قبل بعض أعضاء المجلس السابقين، ونجحت في إعادتها إلى الحكومة. وتضيف: “استقلاليتي السياسية منحتني الحرية في العمل ومحاربة الفساد، لأنني حرة نفسي ولست ملكاً للأحزاب”.
بسبب جهودها واستقلاليتها، تعرضت الجليحاوي لحملة تشهير وتنكيل وصلت إلى مرحلة تزوير كتب باسمها والتقليل من قيمة الأعمال التي تنجزها، لكن هذا لا يمنعها من التفكير في الترشح مجدداً في الانتخابات المقبلة لتكمل طموحها السياسي “من أجل خدمة الديوانية ومحاربة الفساد ومساندة النساء”، خصوصاً أنها اكتسبت خبرة واسعة من خلال تجربتها الأولى في مجلس النواب، فالساحة السياسية العراقية يجب أن لا تترك للأحزاب الكبيرة التقليدية من دون وجود أصوات معارضة تطالب بالتغيير والإصلاح.
م/منصة العراق الاعلامية
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)