العشرينية جنان عباس (أسم مستعار) من محافظة ميسان قضاء قلعة صالح تستذكر معنا قصة تخلي عائلتها عن العشيرة وهربهم إلى العاصمة بغداد، بعد أن أصدر شيخ عشيرتها حكماً عرفياً بأخذها كفصلية، تقول جنان” اضطررت لترك المدرسة بعد أن أكملت تعليمي الأبتدائي، وذلك بحسب الأعراف المتبعة في البيئة الريفية التي نشأت بها, حيث يجبرون البنت على ترك التعليم لتبدأ في أدارة شؤون عائلتها وتعلم الطبخ والخياطة وغيرها من الأشغال المنزلية, بينما أستمر أخوتي الذكور في أكمال تعليمهم”.
حياة جنان في هذه البيئة التي تحكمها الأعراف القبلية، كادت أن تجعل منها أضحية بشرية، حيث تحكم الأعراف المتبعة في عشيرتها بتقديم النساء الى عشيرة صاحب الدم أو عائلة المقتول لإنهاء النزاع واتمام الصلح. قصتها بدأت عام 2009 عندما حدثت مشاجرة بين أبناء العشيرة التي تنتمي لها جنان، بسبب الأختلاف في تقسيم الأرث والأراضي العائدة لآبائهم، وخلال أيام قتل عدد من الأشخاص، بالرغم من تدخل الشرطة قررت العشيرة أن تلجأ للعرف العشائري وألا تسمح للقانون بالحكم بينهم، فحصل التنازل والتراضي من الطرف الذي قتل منهم 3 رجال أمام المحكمة، وقرروا أن يصدر الحكم من المجلس العشائري”.
“حكم بثلاث نساء فصلية من قبل العائلة التي أقدم أبناءها على قتل الرجال الـ3، وبالرغم من أن أخوتي ووالدي لم يكونوا طرفاً في الشجار، لكن كونهم من أبناء عمومة القاتل، وقع عليهم أن تكون امرأة فصلية من عائلتهم, بالاضافة لأختين من عائلة القاتل” تروي جنان.
رفض والد جنان ذلك وأخبر العشيرة عن أستعداده لدفع الديه حتى وأن كانت مرتفعة، على أن يتم التراجع عن حكم زواج ابنته كفصلية كونها طفلة لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها.
“أذكر يوم سمعت ذلك بقيت في حالة من الخوف متمسكة بوالدتي أخبرها أني لا أريد أن أذهب معهم كفصلية, فأنا سبق أن سمعت قصص مشابهة حدثت من حولنا لنساء تعرضن لقهر وإذلال لاحول لهن ولا قوة في بيت العوائل التي أخذتهن كفصلية” تتذكر جنان، وعما جرى وقتها يروي لنا والدها “دخلت في تفاوض مع عائلة المقتول لأقناعهم بالموافقة على دفع الديه، أدخلت وسطاء من كبار الشيوخ في العشيرة التي ننتمي إليها، لكن دون جدوى، فعائلة المقتولين كانوا مصرّين، كنت أرى أبنتي الوحيدة تتحول لضحية نزاع عشائري لا ذنب لها فيه، يومها قررت الهروب وعائلتي إلى بغداد، هناك لن يعرف طريقنا أحد من العشيرة”.
واعتبر هروب عائلة جنان بمثابة “جريمة” بالنسبة للعشيرة، لأنها خرجت عن طوعهم في تنفيذ الحكم المتفق عليه.
عشائر أخرى ترفضه
عن زواج الفصلية يقول رحيم الموسوي – احد شيوخ العشائر الساندة لبغداد “أنه يتخذ عدة أشكال ومسميات بحسب نوع الجرم المرتكب أن كان زنا, أو قتل, وعمرالفتاة التي يتم تقديمها”. ويشرح الموسوي بأن “الجدمية” هي العروس التي تزف في نفس الوقت بعد الفصل مباشرة إلى ولي أمر المقتول، وتكون فتاة باكر, أما “الفجرية” فتعطى من ذوي أهل القاتل. موضحاً بأن عمر “المجفوتة والتلوية واللحيجة” يجب ان يكون كحد ادنى في السابعة، ويحدد أخذهن كزوجات فصلية في وقت لاحق, حيث يبقين محجوزات لعشيرة المقتول, وبعد أن تبلغ الفتاة عمر الزواج أما يتم فدائها بمبلغ من المال او يتم التزوج بها من أحد أفراد العشيرة”.
ويضيف الموسوي “بعض العشائر مازالت تحسم نزاعاتها بدفع عدد من النساء إلى العشائر الأخرى دون موافقتها ومن دون مهر ولا أحتفال بسبب حالة الحزن التي تسيطر على عائلة المقتول”, مؤكدًا أن الفصلية لا يحق لها أن تطلب الطلاق, حتى وأن لم يريدها الزواج تبقى على ذمته ويتزوج هو بآخرى .
يلاقي زواج الفصلية رفضاً من كبار العشائر في العراق، بحسب الموسوي لكن بالرغم من هذا الرفض هنالك عشائر مازالت تمارسه. “المرأة العراقية أصبحت واعية بحقوقها اليوم، لكن بعضهن مازلن بحاجة للدعم لئلا يتعرضن للأذى ولا يكن ضحية العادات وتقاليد قديمة” بحسب قوله.
القانون يجرّم..لكنه مامدى فاعليته؟
“تتطلب النزاعات العشائرية المستمرة التي تذهب ضحيتها النساء بأشكال عدة، اجراءات قوية ورادعة من قبل الحكومة والبرلمان العراقي” يقول الدكتور فاضل الغراوي عضو مفوضية حقوق الإنسان، مشيراً إلى أهمية تشريع القوانين التي تجرم أي حكم يصدرمن العشيرة خارج أطار القانون، ” لتكون رادع قوي يسهم في إيقاف الممارسات التي تشكل تهديدًا للسلم المجتمعي العراقي” بحسب وصفه.
من جهتها تقول المحامية عبير الياسري التي تعمل في محكمة أستئناف الرصافة في بغداد ” هنالك عجز في الأدوات التنفيذية للقانون العراقي فيما يخص قضايا المرأة، خصوصًا تلك التي يتدخل فيها العرف العشائري, حيث تقف القوانين في حياد أمام العادات والتقاليد العشائرية, بالرغم من وجود العديد من المبادرات التوعوية التي قادتها حقوقيات و ناشطات في مجال حقوق المرأة”، كما تشير الياسري للدور المهم المنظمات المجتمع المدني والجهات حكومية العاملة في هذا المجال، لكن هذه المبادرات برأيها مازالت قاصرة، إذ “تحتاج لجهود أكبر، ولتتوسع لتشمل مناطق ومحافظات عراقية بعيدة عن بغداد، لتوعّي المجتمعات وتخفف من أذية الموروثات الاجتماعية التي تذهب ضحيتها النساء كزواج الفصلية” كما تقول.
وحول المبادرات الحكومية من قبل الشرطة المجتمعية تؤكد المفوضة رنا أبراهيم التي تعمل في دائرة العلاقات والاعلام في الشرطة المجتمعية على وجود “جهود كبيرة” من قبل الشرطة المجتمعية للتواصل مع كافة شرائح المجتمع، وتقديم النصح اللازم لرفع الوعي المجتمعي بالنسبة للمجتمعات التي ما زالت تعاني من إنغلاق وعدم تواصل مع التطور القانوني والأجتماعي على حد سواء.
وفي الحديث عن أحد هذه المبادرات برنامج (ساعة مع الشرطة المجتمعية) الذي يتم بثه بشكل مباشر كل أسبوع على الصفحة الرسمية على موقع الفيس بوك الخاص بالشرطة المجتمعية, تقول المفوضة رنا “خلال البرنامج يتم طرح مواضيع كالعنف الأسري, زواج القاصرات, الفصلية, هروب الفتيات من ذويهم, وعدة مواضيع مجتمعية أخرى من صلب حياة الناس ومن واقع المشكلات التي تصل إلينا ونتدخل لتسويتها, نوضح للناس أن هناك جهات قانونية يمكنهم أن يتواصلوا معها, عن طريق الأتصال بالرقم 497, ويمكن أن نحضر لهم مباشرة لتقييم المشكلة والتدخل في إيجاد الحل بدلًا عن وقوع ضحايا أو تعرض حياة احد أفراد العائلة للخطر”.
وتشرح المفوضة رنا بأن الشرطة المجتمعية تحرص على التواصل مع الأقضية ونواحي المدن, والمدن ذات الطابع الريفي لتقديم المشورة والنصح لأفراد هذه المجتمعات من الرجال والنساء على حد سواء.
وأقامت الشرطة المجتمعية خلال العام الماضي عشرات الدورات التثقيفية والتوعوية، ركزت فيها على قضايا المرأة والطفل بشكل خاص.
الدين أيضاً يحرّم
“من أسس الزواج في ديننا الإسلامي هو القبول والرضا وعدم الأجبار بين الطرفين المرأة والرجل، على أن يتم تقديم المهر للمرأة بما يرضيها، بحسب ما نصت عليه الشريعة الإسلامية, وفقهيًا لا يوجد ما يحلل الزواج بطريقة “الفصلية” و جميع الفتاوى في ديننا الحنيف ترفض الزيجات التي تحصل بالأجبار والأكراه” يقول الشيخ ابراهيم العزاوي-عضو الهيئة العليا للمجمع الفقهي العراقي, مؤكدًا أن جميع زواجات”الفصلية” باطلة شرعًا وقانونًا، طالما تحدث دون رضا الزوجة أو الزوج”.
وفي تقرير لمنظمة(أنقذو الأطفال) متوسط بقاء الأناث العراقيات في المدرسة حتى سن العاشرة, وبذلك تكون عرضة أكثر من غيرها للزواج تحت السن القانوني أو تكون ضحية لأعراف وتقاليد يحددها الرجال في عشيرتها.
فأغلب العراقيات لا يحظين بعائلة كعائلة جنان التي تحدّت حكم العشيرة، وتحمّلت نتائج ذلك من مواجهة الأوضاع المعيشية الصعبة بسبب تركهم لبيتهم وأرضهم الزراعية وكل ممتلكلاتهم في محافظة ميسان.
لكن هذه العائلة تمكنت و بمساعدة منظمة خيرية في بغداد من تأمين مسكن مستأجر بمبلغ مالي يسير, ويعمل والدها وأخوتها في العمالة اليومية، أما جنان فتعمل حالياً كجليسة أطفال, معتبرة أن حالها أفضل من بنات عمها اللواتي أخذن كفصلية مرغمات”.
تقول جنان “كأن حكم العشيرة أصبح بمثابة وصمة عار سوف تلازمني لباقي عمري, بالرغم من تقدم شخصين لطلب الزواج مني, لكن بسؤالهم عنا في العشيرة وأعلانهم البراءة من عائلتنا يتراجع من تقدم لخطبتي خوفًا من التعرض لأذى او العار, أشعر أن حياتي توقفت بعمر الـ15, لا اعلم ما الذنب الذي فعلته لكي أعيش طوال عمري أدفع ثمنه”.
انتجت المادة بدعم من “التعاون الالماني”.