بينما يئن سوق العمل العراقي تحت وطأة تحديات هيكلية عميقة، تتصاعد أصوات رائدات الأعمال ليقدّمن بصيص أمل وقوة دافعة نحو تحول طال انتظاره. ففي بلد يواجه فجوة هائلة في مشاركة المرأة الاقتصادية، تبرز قصص النجاح الفردية والجماعية لرائدات الأعمال كشهادات حية على الإمكانات الكامنة التي يمكن إطلاقها لتحقيق التنمية المستدامة.
تشير التقارير الحديثة بوضوح إلى حجم التحدي: 13 مليون امرأة عراقية في سن العمل لا يشاركن فعلياً في النشاط الاقتصادي، بينما لا تتجاوز نسبة النساء العاملات 12.6%، وفي بعض التقديرات تنخفض إلى 8% فقط. هذه الأرقام المذهلة تضع العراق في مرتبة متأخرة بين دول العالم من حيث النشاط الاقتصادي للمرأة، مما يستدعي تحركاً عاجلاً لاستغلال هذه الطاقات المعطلة.
القطاع العام: ملاذ تقليدي بقيود متزايدة
تاريخياً، كان القطاع العام هو الوجهة المفضلة لمعظم النساء العاملات في العراق، حيث يستوعب ما يقارب 89.6% منهن. يُعزى هذا التفضيل إلى عوامل متعددة، أبرزها توفير بيئة عمل تعتبر أكثر “أماناً” و”قبولاً اجتماعياً” مقارنة بالقطاع الخاص. ومع ذلك، فإن قدرة الحكومة على استيعاب المزيد من الباحثين عن عمل محدودة، خاصة في ظل اقتصاد يعتمد بشكل كبير على عائدات النفط. هذا الاعتماد المفرط على القطاع العام يمثل تحدياً اقتصادياً كبيراً، حيث يعيق جهود التنويع الاقتصادي وتحقيق المرونة والاستدامة على المدى الطويل.
ريادة الأعمال: مسار بديل ينبض بالإمكانات
في ظل هذه القيود، تبرز ريادة الأعمال، وخاصة المشاريع الفردية، كمسار بديل واعد للنساء العراقيات. فمع ارتفاع معدلات البطالة (14.1% عموماً و27.2% بين الشباب في عام 2021)، يصبح تأسيس مشروع خاص ليس مجرد خيار مهني، بل ضرورة اقتصادية حتمية للكثيرات لتحقيق الأمن المالي والاستقلال.
يشير تقرير المرصد العالمي لريادة الأعمال (GEM) لعام 2023/2024 إلى ارتفاع ملحوظ في معدلات بدء النساء لمشاريع جديدة، مما يعكس تحولاً متزايداً نحو هذا المسار كحل للتحديات القائمة في سوق العمل التقليدي.
دوافع متعددة تتجاوز حدود الربح
إن الدافع وراء توجه المرأة العراقية نحو ريادة الأعمال يتجاوز مجرد السعي لتحقيق الأرباح. فالاستقلالية والمرونة التي توفرها المشاريع الخاصة في ساعات العمل وبيئة العمل تمثل عوامل حاسمة، خاصة في ظل الأعراف الاجتماعية والمسؤوليات الأسرية الملقاة على عاتقهن. كما أن الرغبة في إحداث تأثير اجتماعي إيجابي، والشغف الشخصي بتحويل الهوايات إلى مشاريع مربحة، كلها محركات قوية تدفع النساء نحو هذا العالم.
بالإضافة إلى ذلك، توفر ريادة الأعمال، خاصة المشاريع المنزلية أو عبر الإنترنت، وسيلة للنساء للعمل وكسب الدخل مع الالتفاف على بعض القيود الثقافية المتعلقة بالتنقل وأماكن العمل المختلطة، مما يجعلها استراتيجية تكيف اجتماعي واقتصادي في آن واحد.
أهمية اقتصادية واجتماعية متنامية
تتجاوز مساهمة رائدات الأعمال في العراق حدود زيادة الدخل الفردي لتشمل تأثيراً متعدد الأوجه على الاقتصاد والمجتمع ككل. فهن ينشطن في قطاعات متنوعة، من التكنولوجيا إلى الزراعة والصناعة، مما يساهم في تنويع الاقتصاد العراقي وتقليل اعتماده على النفط. كما أنهن يخلقن فرص عمل جديدة ويساعدن في تخفيف حدة البطالة المرتفعة، خاصة بين الشباب. وتشير التقديرات إلى أن سد الفجوة بين الجنسين في التوظيف يمكن أن يزيد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20% على المدى الطويل.
علاوة على ذلك، غالباً ما تحمل مشاريع المرأة بعداً اجتماعياً، حيث تستهدف الفئات المهمشة أو القضايا البيئية، مما يعزز الاستقرار المجتمعي ويحسن المؤشرات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم، ويساهم في تنمية المجتمعات المحلية بشكل عام.
تحديات جمة تعيق طريق النجاح
على الرغم من الإمكانات الهائلة، تواجه رائدات الأعمال في العراق سلسلة من التحديات المعقدة التي تعيق تقدمهن ونمو مشاريعهن. يأتي في مقدمة هذه التحديات صعوبة الوصول إلى التمويل، حيث تعتمد الكثيرات على المدخرات الشخصية والقروض العائلية لبدء مشاريعهن. كما أن الأعراف الاجتماعية والثقافية السائدة قد تحد من نوعية المشاريع والقطاعات التي يمكن للمرأة العمل فيها، بالإضافة إلى صعوبة تقبل المجتمع لوجود المرأة في الأدوار القيادية.
وتعيق البيئة القانونية والتنظيمية المعقدة عملية تسجيل الأعمال التجارية، مما يحرمهن من الحماية القانونية والدعم الرسمي وفرص الحصول على التمويل. يضاف إلى ذلك ضعف برامج بناء القدرات المتخصصة التي تلبي احتياجاتهن، وعدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي الذي يزيد من مخاطر الاستثمار ويجعل التخطيط طويل الأجل صعباً. كما أن تحمل النساء لتكاليف نقل أعلى بسبب القيود الاجتماعية يمثل عبئاً إضافياً.
مبادرات واعدة ونماذج ملهمة تضيء الطريق
لحسن الحظ، تتزايد الجهود الحكومية والمحلية والدولية لدعم ريادة الأعمال النسائية في العراق. تشمل هذه الجهود استراتيجيات حكومية تهدف إلى تمكين المرأة اقتصادياً، وظهور حاضنات ومسرعات أعمال تقدم الدعم والإرشاد المتخصص، وبرامج تدريب متنوعة لتطوير المهارات اللازمة في مجالات مثل الإدارة المالية والتسويق الرقمي والتكنولوجيا، ومبادرات تمويلية تقدم المنح والقروض الميسرة.
وتقدم قصص النجاح الملهمة لرائدات الأعمال العراقيات، مثل باسيمة عبد الرحمن مؤسسة شركة “كيسك” للحلول الخضراء، وشذى جبار الزهيري سيدة الأعمال الرائدة التي بدأت مسيرتها بتوريد الألبسة وتوسعت لتشمل مجالات أخرى، ونور الهدى جاسم صانعة الحلويات المنزلية التي تتحدى القيود الاجتماعية بشغفها، دليلاً حياً على مرونة المرأة العراقية وقدرتها على تحقيق النجاح والابتكار في وجه الصعاب. هذه النماذج الملهمة لا تضيء الطريق للآخرين فحسب، بل تتحدى أيضاً الصور النمطية السلبية حول قدرات المرأة وأدوارها في المجتمع.
توصيات لتعزيز بيئة ريادة الأعمال النسائية
لتعزيز بيئة أكثر دعماً وشمولاً لريادة الأعمال النسائية في العراق، يقترح خبراء تبني مجموعة من التوصيات العملية على مستويات مختلفة:
- إصلاحات تشريعية: تسهيل تسجيل الأعمال التجارية للمرأة، وضمان حقوق الملكية، والنظر في نظام الحصص في الأعمال التجارية وتقديم حوافز ضريبية للشركات التي توظف النساء.
- آليات الدعم المالي: إنشاء صناديق وقروض مخصصة للمشاريع التي تديرها النساء، وتطوير خيارات التمويل الأصغر والقروض الانتقالية، وتسهيل وصول رائدات الأعمال إلى المستثمرين المحليين والدوليين، وزيادة الوعي بالمنح وبرامج الدعم المتاحة.
- بناء القدرات وتنمية المهارات: توفير تدريب شامل في الأنشطة الاقتصادية والإدارة المالية ومحو الأمية الرقمية والتسويق الإلكتروني والتقنيات المتقدمة، وتعزيز برامج الإرشاد وإنشاء شبكات قوية بين رائدات الأعمال وقادة الأعمال ذوي الخبرة، وإنشاء المزيد من حاضنات الأعمال التي تدعم المشاريع النسائية، ودمج تعليم ريادة الأعمال في المناهج الدراسية في مراحل مبكرة.
- التوعية الاجتماعية والتغيير الثقافي: إطلاق حملات توعية شاملة لتغيير التصورات المجتمعية لأدوار المرأة في القوى العاملة والقيادة، وإشراك رجال الدين في تعزيز تغيير إيجابي في التصورات الاجتماعية، وإصلاح المناهج الدراسية لتعكس أهمية أدوار المرأة في العمل.
- تعزيز الشراكات: تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص والمنظمات غير الحكومية لخلق نظام بيئي داعم متماسك، والاستفادة من التعاون الدولي لتقديم الدعم الفني والمالي، وتحسين جمع البيانات وتبادلها حول الأعمال التي تملكها النساء.
استثمار استراتيجي في مستقبل العراق
يمثل صعود رائدات الأعمال في العراق أكثر من مجرد اتجاه اقتصادي؛ إنه استثمار استراتيجي في مستقبل البلاد. فمن خلال تمكين المرأة اقتصادياً، يمكن للعراق إطلاق العنان لإمكانات هائلة غير مستغلة، وتنويع اقتصاده، وخلق فرص عمل مستدامة، وبناء مجتمع أكثر إنصافاً وازدهاراً. إن تذليل العقبات التي تواجه رائدات الأعمال وتوفير الدعم الشامل لهن ليس مجرد واجب اجتماعي، بل ضرورة اقتصادية حتمية لتحقيق الاستقرار والنمو المستدام على المدى الطويل. إن قصص نجاحهن هي شهادة على مرونتهن وابتكارهن، وهن يمثلن قوة دافعة حقيقية نحو تحويل سوق العمل المتعثر وبناء مستقبل أفضل للعراق.