منذ سقوط النظام السابق، شهد العراق فراغاً مؤسساتياً وتراجعاً في دور الدولة بشكل مؤثر الامر الي أتاح للعشائر فرصة استعادة موقعها كضامن اجتماعي وأمني في كثير من المناطق، هذا الفراغ،فتح الباب أمام العشائر لتلعب دوراً وسيطاً بين المواطن والدولة، وبين القواعد الشعبية والكتل السياسية، عبر شبكات من الولاء والمصالح المتبادلة، فقد اصبحت العشيرة قادرة على حماية أبنائها، وتوفير الدعم الاجتماعي لهم، لكن بعضها في الوقت نفسه أصبحت قناة للنفوذ السياسي، حيث يلجأ المرشحون إلى زعماء العشائر لكسب التأييد الانتخابي وضمان الأصوات، يبرز في هذا المشهد أيضاً أن القوى السياسية، وخصوصاً بعد عام 2005، لم تسعَ إلى تقليص نفوذ العشائر بل وظّفته ضمن منظومة التحالفات الانتخابية والمحلية حيث ان الكثير من الأحزاب لجأت إلى استمالة بعض الشيوخ والوجهاء لضمان الاستقرار الاجتماعي أو لتحقيق مكاسب سياسية، ما أدى إلى تسييس المؤسسة العشائرية وإدخالها في محور المصالح الحزبية ومع مرور الوقت، أصبح بعض شيوخ العشائر جزء من النخبة السياسية والبرلمانية، يشاركون في صنع القرار أو التأثير فيه عبر علاقاتهم الوثيقة مع الكتل المتنفذة، أن هذا التحول لم يكن مجرد عودة تقليدية للعشيرة، بل إعادة تشكيل لدورها وفق منطق السلطة الحديثة، إذ باتت العشيرة تعمل كوسيط مؤسسي غير رسمي في إدارة الشأن العام، فالمواطن في كثير من المناطق، حين يصطدم بعقبات في التعامل مع مؤسسات الدولة أو في الحصول على الخدمات، يلجأ إلى شيخ عشيرته بوصفه قناة ضغط فعالة على الجهات الحكومية أو السياسية و بذلك أصبحت العشيرة تمثل سلطة موازية تملك القدرة على التأثير في التوازنات المحلية وتوجيه السلوك الانتخابي، بل وأحياناً فضّ النزاعات بطرق تفوق فاعلية القضاء الرسمي.
لكن هذا الواقع، وما يوفره من استقرار اجتماعي نسبي، يطرح تساؤلات عن طبيعة الدولة العراقية الحديثة وقدرتها على احتكار الشرعية القانونية، فبروز بعض العشائر كوسطاء دائمين بين المواطن والدولة يعني عملياً ضعف مؤسسات الدولة حيث تتحول الخدمات والحقوق إلى امتيازات تمنح عبر الولاء الاجتماعي لا عبر المواطنة كما أن تداخل النفوذ العشائري مع البنية السياسية قد يؤدي إلى إضعاف سيادة القانون واستمرار الولاءات ما دون الوطنية،
إن هذه القراءة تفتح الباب لنقاش أعمق حول التحول في هوية السلطة داخل العراق بعد 2003، إذ لم تعد القوة محصورة في يد الدولة أو الأحزاب فقط، بل توزعت بين مراكز اجتماعية ودينية وعشائرية وفي هذا السياق، تبقى العشيرة نموذجاً حياً لقدرة البنى التقليدية على التكيّف مع الأنظمة السياسية الحديثة، وإعادة إنتاج ذاتها في كل مرحلة جديدة، مستفيدة من الإرث الاجتماعي العميق ومن هشاشة مؤسسات الدولة.
بذلك يمكن القول إن القوى العشائرية في العراق لم تعد مجرد مكوّن اجتماعي محافظ، بل أصبحت طرفاً سياسياً فاعلاً يتعامل مع الدولة والسلطة وفق منطق الشراكة والتوازن، ما يجعل فهم دورها اليوم شرطاً أساسياً لفهم طبيعة النظام السياسي العراقي ومستقبله.