على امتداد عقدين من التحولات السياسية العاصفة في العراق، لم تكن مشاركة المرأة في الحياة البرلمانية مجرد رقم يُضاف إلى سجلات الديمقراطية الناشئة، بل شكلت ساحة صراع مستمرة بين طموح التقدم وموروث التقاليد، وبين ضرورات التمثيل الشكلي ومتطلبات التأثير الفعلي. ففيما ضمن نظام “الكوتا” للنساء حصة لا تقل عن ربع مقاعد مجلس النواب منذ عام 2005، كخطوة أُريد لها أن تكون تأسيسية لدمج المرأة في قلب العملية السياسية، يظل السؤال الجوهري قائماً حول مدى قدرة هذا الحضور على تجاوز الأطر المفروضة والتحول إلى قوة فاعلة في رسم السياسات وتوجيه التشريعات. إن هذا الحضور، الذي يُنظر إليه أحيانًا كإنجاز كمي، يخفي وراءه تعقيدات تتعلق بالهيمنة الحزبية، والتحديات المجتمعية، وحتى نظرة الرأي العام لدور المرأة في القيادة، وهي كلها عوامل ترسم ملامح الدور الحقيقي للنائبات العراقيات بعيداً عن الأرقام الرسمية.
المرأة العراقية والبرلمان: سياق تاريخي ومسار متعرج نحو التمثيل
لم تكن مشاركة المرأة العراقية في الحياة العامة وليدة اللحظة السياسية التي أعقبت عام 2003، بل لها جذور تمتد إلى عقود سابقة شهدت بروز أسماء نسائية رائدة في مجالات التعليم والثقافة والعمل الاجتماعي والسياسي المحدود آنذاك. غير أن التحول الأبرز نحو المشاركة السياسية المنظمة، وبأعداد لافتة، بدأ مع التغييرات الجذرية التي طرأت على بنية الدولة والمجتمع العراقي.
مع إقرار الدستور العراقي الدائم عام 2005، تم اعتماد نظام الكوتا (المادة 49، رابعاً)، الذي نص على ضمان تمثيل النساء بنسبة لا تقل عن 25% من أعضاء مجلس النواب. جاء هذا الإجراء، الذي كان محل نقاش وجدل واسعين في الأوساط السياسية والمجتمعية، كاستجابة لضغوط دولية ومحلية لضمان عدم إقصاء المرأة عن المشهد السياسي الجديد، وكاعتراف بأهمية دورها في بناء عراق ديمقراطي تعددي. رأى فيه المؤيدون خطوة ضرورية لكسر الحواجز الذكورية المتجذرة، بينما اعتبره البعض تمييزاً إيجابياً قد لا يعكس الكفاءة بالضرورة أو قد يُستخدم كواجهة حزبية. وقد شكل هذا النظام قفزة كمية ملحوظة في عدد النائبات مقارنة بالتجارب البرلمانية العربية الأخرى في حينه، حيث احتل العراق المرتبة الثانية بعد الإمارات في نسبة مشاركة النساء بالبرلمان في انتخابات 2021 بنسبة 28.9% من المقاعد.
في الدورة الانتخابية الأولى (2005)، نجحت 87 امرأة في الوصول إلى البرلمان، متجاوزات بشكل طفيف نسبة الكوتا. واستمر هذا الحضور العددي، مع بعض التفاوت، في الدورات اللاحقة: 70 نائبة في 2010 (21.5% بسبب تقلبات عدد المقاعد الإجمالي)، ثم 83 نائبة في 2014 (25.3%)، و83 نائبة أيضاً في 2018 (25.2%). وشهدت انتخابات 2021، التي جرت وفق قانون انتخابي جديد اعتمد الدوائر المتعددة، ارتفاعاً ملحوظاً في عدد النائبات إلى 97 نائبة (29.4%)، وهو ما عزاه مراقبون جزئياً إلى قدرة بعض المرشحات على حصد أصوات مباشرة في دوائرهن بشكل أفضل من النظام السابق.
رغم هذا التقدم الكمي، الذي يضع العراق في مصاف الدول المتقدمة إقليمياً من حيث عدد البرلمانيات، ظلت الأسئلة تدور حول ما إذا كان هذا الحضور يُترجم بالضرورة إلى نفوذ سياسي حقيقي ومستقل، أم أنه يظل، في جزء كبير منه، استجابة شكلية لمتطلبات النظام الانتخابي وضغوط الأحزاب لتأمين مقاعد إضافية.
تحت قبة البرلمان: أداء النائبات بين التشريع والرقابة والتحديات المؤسسية
انخرطت النائبات العراقيات في مختلف اللجان البرلمانية الدائمة والمؤقتة، وشاركن في مناقشة وإقرار العديد من التشريعات التي شملت مختلف جوانب الحياة. وبحسب تقارير متابعة الأداء البرلماني، فقد برزت مساهماتهن بشكل خاص في لجان مثل المرأة والأسرة والطفولة، وحقوق الإنسان، والصحة والبيئة، والتعليم العالي، والعمل والشؤون الاجتماعية، والقانونية. كما سُجلت لهن مبادرات تشريعية ومقترحات قوانين تتعلق بقضايا العنف الأسري، وحقوق الطفل، وتعديل قوانين الضمان الاجتماعي والرعاية الاجتماعية، وتحسين أوضاع الأرامل والمطلقات والأقليات، وهي قضايا غالباً ما تكون ذات حساسية مجتمعية وتحتاج إلى نفس تشريعي خاص.
فعلى سبيل المثال، كان للنائبات دور مستمر في الدفع باتجاه تشريع قانون الحماية من العنف الأسري، الذي لا يزال يواجه جدلاً واسعاً ومعارضة من بعض القوى السياسية والدينية المحافظة، مما يعكس صعوبة تمرير تشريعات تمس البنى التقليدية. كما شاركن في نقاشات حيوية حول الموازنات السنوية وتخصيصاتها، وفي تعديل قوانين تتعلق بالخدمة المدنية والتقاعد بما يخدم شرائح أوسع، بما فيها النساء.
أما على الصعيد الرقابي، فقد مارست بعض النائبات دورهن في توجيه الأسئلة البرلمانية وطلبات الإحاطة وتقديم طلبات استجواب لمسؤولين تنفيذيين، وإن كان هذا الدور يبدو أقل بروزاً وتأثيراً مقارنة بالدور التشريعي، ويتأثر بشكل كبير بالاصطفافات السياسية للكتل التي ينتمين إليها وبالسياق الأمني والسياسي العام. طبيعة النظام البرلماني العراقي القائم على التوافقات والمحاصصة الحزبية تجعل من الصعب على أي نائب، رجلاً كان أم امرأة، ممارسة الدور الرقابي بفعالية كاملة دون غطاء سياسي قوي.
ومع ذلك، تواجه النائبات تحديات مؤسسية كبيرة داخل البرلمان. فغالباً ما تكون أجندات الكتل السياسية الكبرى هي المهيمنة، وتجد المقترحات الفردية أو تلك القادمة من تكتلات نسائية (التي حاولت التشكل مراراً ولكن بفعالية متفاوتة) صعوبة في المرور دون دعم من هذه الكتل. كما أن الأعراف السياسية السائدة، التي تميل إلى تغليب المصالح الحزبية الضيقة والتوافقات اللحظية، قد تحد من قدرة النائبات على التأثير بشكل مستقل في مسار التشريعات والقرارات الهامة. ويشير مراقبون إلى أن توزيع المناصب القيادية في اللجان ورئاسة البرلمان ونياباتها لا يزال يخضع لحسابات الكتل الكبرى وتقاسم النفوذ، مما قد يقلل من فرص وصول النساء إلى مواقع صنع قرار متقدمة داخل المؤسسة التشريعية بشكل يتناسب مع عددهن، على الرغم من بعض الاستثناءات.
صوت المرأة في معترك السياسة..التحديات المجتمعية والحزبية ونظرة الرأي العام
لا يمكن فصل أداء النائبات عن السياق المجتمعي والثقافة السياسية السائدة في العراق. فالأعراف والتقاليد الاجتماعية، التي لا تزال تنظر إلى دور المرأة بشكل نمطي في كثير من الأحيان، تلقي بظلالها على مدى قبول وفعالية مشاركتها السياسية. تتعرض المرشحات والنائبات أحياناً لحملات تشويه وتسقيط، وابتزاز إلكتروني، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف ثنيهن عن الاستمرار في العمل السياسي أو التأثير على سمعتهن.
وتكشف بيانات “الباروميتر العربي” عن تعقيدات إضافية تتعلق بنظرة الرأي العام. ففي أحدث استطلاعاته (الدورة الثامنة 2023-2024)، لوحظ على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عودة إلى تأييد فكرة أن “الرجال أفضل من النساء في مناصب القيادة السياسية” لمستويات فاقت ما كانت عليه قبل عقد في ست من سبع دول شملها الاستطلاع. ورغم أن بيانات العراق التفصيلية لهذا السؤال المحدد لم تبرز بشكل منفرد في الملخصات الأولية لتلك الدورة، إلا أن تقارير سابقة للباروميتر (مثل استبيان 2019 الذي أشار إليه معهد الشرق الأوسط للبحوث MERI-K) أوضحت أن غالبية العراقيين كانوا يبدون اهتماماً منخفضاً بالسياسة بشكل عام، وأن عدم الاستقرار وتغييب النساء عن مواقع التأثير الفعلي قد يرجح الاعتقاد بأن الرجال “أفضل لقيادة دفة السياسة”. ومن المفارقات التي رصدها الباروميتر العربي إقليمياً أن النساء في بعض الدول أظهرن تأييداً لفكرة أفضلية الرجل في القيادة السياسية بنسب أعلى من الرجال أحياناً، بينما في المقابل، وبشكل أكثر ثباتاً، تميل النساء إجمالاً إلى الاختلاف مع هذه الفكرة أكثر من الرجال، مما يعكس تبايناً وتأثراً بالضغوط المجتمعية.
على الصعيد الحزبي، يبرز تحدي مدى استقلالية النائبات في قراراتهن ومواقفهن. ففي نظام سياسي يعتمد بشكل كبير على الأحزاب والكتل، غالباً ما تكون النائبة ملزمة بالانضباط الحزبي، مما قد يقيد قدرتها على تبني مواقف تتعارض مع توجهات حزبها، حتى لو كانت تلك المواقف تخدم قضايا المرأة أو المصلحة العامة من وجهة نظرها. ويرى محللون أن العديد من الأحزاب لا تزال تتعامل مع الكوتا النسائية كآلية لملء المقاعد أو كواجهة صورية، أكثر من كونها فرصة لتمكين قيادات نسائية حقيقية قادرة على التأثير وصنع القرار داخل الحزب وخارجه. وغالباً ما يتم توجيه النائبات للتصويت وفقاً للخط الحزبي، مع فرص محدودة لإثبات ذواتهن سياسياً بشكل مستقل.
يُضاف إلى ذلك، ضعف التغطية الإعلامية الموضوعية والتحليلية لأداء النائبات، حيث يميل الإعلام أحياناً إلى التركيز على الجوانب الشكلية أو الشخصية، أو يتم تهميش دورهن في القضايا السياسية الكبرى، مما يساهم في تكريس صورة غير مكتملة عن مساهماتهن الفعلية والتحديات الجسيمة التي يتصدين لها.
بصمات نسائية في مسيرة التشريع العراقي
على الرغم من كل التحديات الهيكلية والمجتمعية، لا يمكن إنكار أن وجود المرأة في البرلمان العراقي قد أحدث فرقاً ملموساً في طرح ومناقشة قضايا لم تكن تحظى بالأولوية سابقاً، وساهم في إثراء النقاش العام. فقد نجحت النائبات، عبر دورات متعددة، في إبقاء قضايا حقوق المرأة والطفل والأسرة والعدالة الاجتماعية حاضرة على أجندة النقاش التشريعي. وتم تسجيل مبادرات ومقترحات قوانين مهمة، حتى وإن لم يتم إقرار بعضها بالسرعة المطلوبة أو بالشكل الأمثل، مثل المحاولات المستمرة لإقرار قانون شامل لمكافحة العنف الأسري، وقوانين تتعلق بضمان حقوق الأقليات من النساء، ودعم ضحايا الإرهاب، وتمكين الشباب.
كما برزت أسماء لنائبات استطعن، من خلال خبرتهن القانونية أو الأكاديمية أو السياسية، أن يساهمن بفعالية في صياغة تشريعات اقتصادية أو خدمية، وفي ممارسة دور رقابي جاد في بعض الملفات. إن مجرد وجود هذا العدد من النساء، وتنوع خلفياتهن، تحت قبة البرلمان قد ساهم في تغيير تدريجي، وإن كان بطيئاً وغير مكتمل، في الثقافة السياسية السائدة، وبدأ يخلق تراكمًا من الخبرة النسائية في العمل التشريعي والتفاوضي والسياسي. وقد أظهرت بعض النائبات قدرة على بناء تحالفات عابرة للكتل في بعض القضايا الحقوقية والإنسانية.
تشير بعض التحليلات إلى أن النائبات، عندما تتاح لهن الفرصة والدعم الكافي من كتلهن أو من خلال عمل جماعي نسائي، يمكن أن يكنّ أكثر تركيزاً ومتابعة للقضايا الخدمية والمعيشية التي تمس حياة المواطنين بشكل مباشر، ويساهمن في لفت الانتباه إلى جوانب مهملة في السياسات العامة.
مستقبل دور المرأة في البرلمان والسياسة العراقية
إن تقييم فعالية نظام الكوتا بعد أكثر من خمس دورات برلمانية يشير إلى أنه كان ضرورياً ومرحلياً لضمان الحد الأدنى من التمثيل في مرحلة انتقالية معقدة، ولكنه ليس كافياً بحد ذاته لتحقيق تمكين سياسي حقيقي ومستدام للمرأة. يرى العديد من الخبراء والناشطين أن المرحلة المقبلة يجب أن تركز على تجاوز التمثيل العددي إلى التأثير النوعي والفعالية السياسية.
ويتطلب ذلك العمل على عدة مسارات متوازية واستراتيجيات طويلة الأمد:
- بناء القدرات وتطوير القيادات: دعم وتأهيل النساء الراغبات في دخول المعترك السياسي والموجودات فيه، وتزويدهن بالمهارات المتقدمة اللازمة للعمل البرلماني الفعال، من تحليل السياسات وصياغة التشريعات المعقدة إلى فنون التفاوض السياسي، وبناء التحالفات، والتعامل الاستراتيجي مع الإعلام، وإدارة الحملات الانتخابية.
- الإصلاح الحزبي الداخلي: تشجيع الأحزاب السياسية، وربما إلزامها عبر تشريعات، على تبني سياسات داخلية ديمقراطية وشفافة تضمن ترشيح نساء كفؤات على قوائمها في مواقع متقدمة ومضمونة، وليس فقط لاستيفاء شروط الكوتا. الأهم هو تمكينهن من الوصول إلى مواقع قيادية مؤثرة داخل هياكل الحزب وصنع قراره.
- تطوير البيئة التشريعية والمؤسسية: النظر في تعديل قانون الانتخابات أو الأنظمة الداخلية للبرلمان بما يعزز من فرص النساء في الفوز خارج إطار الكوتا بالضرورة، ويدعم وصولهن إلى رئاسة اللجان والمناصب الهامة في هيئة الرئاسة ومكاتب المجلس بناءً على الكفاءة والخبرة.
- دور المجتمع المدني والإعلام والمؤسسات الدولية: تكثيف جهود منظمات المجتمع المدني في مراقبة أداء النائبات ودعمهن، وتوفير منصات للحوار بينهن وبين قواعدهن الانتخابية، وتوعية المجتمع بأهمية دور المرأة في السياسة. وكذلك، تشجيع الإعلام على تقديم تغطية متوازنة وموضوعية وعميقة تسلط الضوء على إنجازاتهن والتحديات التي يواجهنها، ودور المؤسسات الدولية في تقديم الدعم الفني والخبرات.
- تغيير الثقافة المجتمعية: العمل على برامج طويلة الأمد تستهدف تغيير الصور النمطية السلبية حول دور المرأة في القيادة والمجال العام، بالتعاون مع المؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية.
إن مستقبل دور المرأة في البرلمان والسياسة العراقية مرهون بمدى توفر الإرادة السياسية الحقيقية لدى مجمل القوى الفاعلة لتجاوز النظرة التقليدية أو الاستغلالية، والاعتراف بالمرأة كشريك كامل وفاعل في بناء الدولة وصنع القرار. فالطريق لا يزال طويلاً وشاقاً، ولكنه ليس مستحيلاً، إذا ما تضافرت الجهود وتوفرت الرؤية نحو تحقيق تمثيل لا يقتصر على العدد، بل يمتد إلى التأثير الحقيقي والفعل الملموس في حياة العراقيين والعراقيات.