لم تكن شهلاء حسن -من أهالي محافظة ميسان التي تبعد 344 كيلومترًا عن بغداد- تتوقع أن شرب الماء سيفقدها جنينها الذي انتظرته سنوات طويلة. في الشهر الثامن من حملها انتابت شهلاء آلام شديدة في بطنها وارتفعت درجة حرارتها، وعند لجوئها إلى المستشفى، أبلغها الطبيب ضرورة إجراء عملية ولادة مبكرة، وإخراج الجنين قبل فوات الآوان؛ نظرًا لإصابتها بالتهاب في المشيمة “مما قد يتسبب في وقف تدفق الأوكسجين إلى الجنين”. بعد عدة ساعات من خروجها من غرفة العمليات، أخبرها الأطباء أن الجنين توفي بسبب تلوث دمائه، فيما استمرت صحة شهلاء في التدهور، لتكشف الفحوصات عن إصابتها بالتيفوئيد، والسبب -كما أخبرها الأطباء- يرجع إلى شربها مياه ملوثة قادمة من نهر البتيرة الذي يجري بين عدة مناطق في ميسان.
يوثق هذا التقرير ارتفاع معدلات الإجهاض والولادات المبكرة بين نساء محافظة ميسان الجنوبية نظرًا لتلوث مياه الشرب. وفق التقرير الإحصائي السنوي لوزارة الصحة العراقية، بلغت نسبة الإجهاض غير المحدد للنساء في محافظة ميسان 83.7 في المئة من إجمالي حالات الإجهاض في المحافظة. من ناحية اخرى يفاقم من تدهور الوضع نقص عدد المستشفيات مقارنة بعدد السكان، فقد بلغ عدد المستشفيات الحكومية والأهلية 10 مستشفيات داخل المحافظة، حسب الجهاز المركزي للإحصاء. |
|
مياه الشرب المختلطة بالصرف |
ما زالت معاناة والده الراحل مع أمراض الصدر ماثلة في ذاكرة هيرش محمد: “أبي كان يعاني من حساسية في الصدر والربو، وظل حبيس منزله مريضًا، وكلما كنت أخرجه ليستنشق هواء نقيًا، تسوء حالته؛ نظرًا لتلوث هواء بازيان”.
يوضح الدكتور صالح نجيب مجيد أن إتجاه الرياح يلعب دورًا في نقل ملوثات المصانع، وكلما اقتربت مصادر التلوث من المناطق السكنية، تزداد كثافة تعرض السكان لهذه الملوثات. ووفق صور الأقمار الصناعية، تقع مصانع الأسمنت والحديد على مقربة من المناطق السكنية؛ فيقع مصنع الأسمنت على بعد نحو 200 متر من الوحدات السكنية. ويصدر عن صناعة الأسمنت غبار الكلنكر الذي ينتقل عبر الهواء، ويصيب الجهاز التنفسي لمستنشقيه. ورغم تعدد حالات الإصابة بأمراض الصدر الخطيرة في “بازيان”، لا توجد لدى دائرة البيئة في محافظة سليمانية أي إحصائيات عن معدلات الإصابة بالأمراض في قضاء بازيان. ولا يمنع غياب التقديرات من أن تؤكد شاي اوات عبد القادر، رئيسة قسم التوعية والإعلام في دائرة البيئة في محافظة السليمانية، أن انبعاثات المصانع ومخلفاتها تؤثر سلبًا في صحة سكان المنطقة. |
|
||||
في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أصدرت مديرية بيئة محافظة ميسان تقريرًا عن الفحوصات التي أجرتها على عينتين من مياه النهر مسحوبتين من موقعين مختلفين. تكشف العينية ارتفاع مستويات العسرة والعكارة، ونسب الصوديوم والفوسفات والبوتاسيوم، عن المستويات القياسية الموضوعة من قبل وزارة البيئة. ويحذر تقرير حصلنا عليه من أن خلط مياه الصرف بمياه الشرب يؤثر على صحة سكان المحافظة.
التلوث والإجهاض |
تشير وثيقة صادرة من وحدة الأمراض الانتقالية في أحد المستشفيات في المحافظة إلى حدوث 120 حالة إجهاض عام 2018. كما أظهرت وثيقة أخرى صادرة عن قسم الإحصاء في المستشفى نفسه، ارتفاع حالات الإجهاض إلى 150 حالة في عام 2020، و140 حالة في النصف الأول من عام 2021.
حسب بيانات جهاز الإحصاء المركزي، فإن معدل وفيات الأطفال الرضع لكل 1000 ولادة حية في محافظة ميسان لعامي 2019 و2020 بلغ 14.1 و 13.7 على التوالي، في حين شكلت نسبة وفيات الأمهات لكل 100 ألف ولادة، 46.3 في المئة في عام 2020. يرجع الأطباء والطبيبات في مستشفيات المحافظة حالات الإجهاض إلى ارتفاع نسب تلوث المياه، موضحين أن تلوث المياه يُعَدّ مصدرًا للأمراض والجراثيم التي تؤثر سلبًا على صحة المرأة وجنينها.
تقول الدكتورة سارة حسين، أخصائية طب النساء والتوليد في احد المستشفيات، لديها خبرة في البحث العلمي حول تأثيرات المياه الملوثة على صحة النساء والصحة الإنجابية. إن تلوث المياه في المحافظة يسبب مجموعة من المشكلات الصحية على النساء؛ مثل: التهابات الجهاز التناسلي والإسهال والتسمم الغذائي. وبما إن تلوث المياه يساهم في نقل الأمراض، مثل: الكوليرا والتيفوئيد، يُشير الخبراء في المجال الصحي إلى خطورة هذه الحالات وتأثيرها على صحة النساء.
ويتعرضن النساء الحوامل لمخاطر تلوث المياه أكثر من غيرهن، نظرًا إلى ما قد يسببه هذا التلوث من مضاعفات خلال فترة الحمل والولادة مثل: الولادة المبكرة و تأثيراتها على نمو الجنين وتطوره. وتذكر حسين بأهمية توعية النساء الحوامل بأهمية تجنب مصادر المياه الملوثة. ومن ناحية أخرى، تحث الحكومات والمؤسسات الصحية على اتخاذ إجراءات جادة؛ لضمان توفير مياه آمنة للشرب، والاهتمام بصحة النساء الحوامل. وبهذا، يمكن الحد من تأثيرات تلوث المياه الضارة في النساء والأجيال المقبلة. |
|||||
|
|||||
أدرجت الأمم المتحدة “إتاحة المياه والصرف الصحي للجميع” ضمن أهداف التنمية المستدامة.
وقالت الأمم المتحدة في تعريف هذا الهدف الذي حمل الرقم 6: “في حين أنه تم إحراز تقدم كبير في زيادة الحصول على مياه الشرب النظيفة والصرف الصحي، لا يزال بلايين الناس – ومعظمهم في المناطق الريفية – يفتقرون إلى هذه الخدمات الأساسية. عالمياً نجد أن واحداً من كل ثلاثة أشخاص لا يحصل على مياه الشرب المأمونة“.
وفق إحصاءات منظمة الصحة العالمية، ارتفعت نسبة الأفراد الذين يستخدمون خدمات مياه الشرب بشكل آمن؛ أي الخدمات التي تكون متاحة وغير ملوثة عند الحاجة، إلى 74 في المئة من إجمالي سكان العالم، الذين بلغ عددهم 7.8 مليار شخص في عام 2020. |
|||||
التشخيص الخاطئ يضاعف الأزمة |
في شهرها الثاني من الحمل، استشعرت شهد عباس -22 عامًا- أعراض الحمى والصداع والإسهال, فتوجهت إلى المركز الصحي لإجراء الفحوصات، التي أظهرت إصابتها بالتهاب الزائدة الدودية، ما استلزم إجراء عملية جراحية ضرورية. أدت العملية الجراحية إلى فقدان الجنين، ورغم مضي بضعة أسابيع على العملية، استمرت حالة عباس الصحية، فقررت مراجعة طبيب آخر، أوصى بإجراء عدة فحوصات مختبرية، أظهرت -في الأخير- أن التشخيص السابق كان خاطئًا، وأنها كانت تعاني من التيفوئيد، نتيجة لشربها ماء ملوثًا من الصنبور. مرت شهد بفترة طويلة من تلقي العلاج اللازم، حتى تعافت تمامًا.
توضح الدكتورة غسق عبد الواحد، أخصائية نسائية وتوليد في مستشفى الشهيد الصدر التعليمي في ميسان، غياب المختبرات المتطورة، وبالأخص في المستشفيات والمراكز الصحية الواقعة في الأقضية والنواحي التي تقع على أطراف ميسان، حيث يتسبب عدم إمكانية تحديد نوع الجرثومة أو الحالة الفطرية التي يعاني منها المريض، في عدم تلقي العلاج الملائم. عبد الواحد شددت في كلامها على أن التشخيص الخطأ من شأنه أن يؤدي إلى “الإجهاض غير المقصود”. وهو ما تؤكده بيانات وزارة الصحة العراقية التي تشير إلى أن الغالبية العظمى من حالات الإجهاض (83 في المئة) في محافظة ميسان تصنف باعتبارها حالات إجهاض غير محددة.
توضح الدكتورة رشا الجنابي، أخصائية جراحة النسائية والتوليد، أن هناك فرقًا بين الإجهاض التلقائي والمستحث، إذ يشير الإجهاض التلقائي إلى فقدان الحمل قبل الأسبوع العشرين من الحمل من دون تدخل خارجي، وعادة ما يكون ناجمًا عن مشكلات وراثية أو صحية تتعلق بالأم أو الجنين، أما الإجهاض المستحث، يشمل إنهاء الحمل من خلال إجراء جراحي أو باستخدام أدوية أو وسائل أخرى. وتبيّن أن بعض النساء في ميسان يتعرضن للإجهاض المستحث بسبب تشخيص خاطئ لحالاتهن، أدى لإجراء عملية جراحية من دون داعِ. وتشير الجنابي، إلى أن التهاب الزائدة الدودية تشخيص خطأ شائع بين الأطباء، يؤدي للتأثير على النساء الحوامل. |
|
الإجهاض جزء من المشكلة وليس كلها |
في ظل تصاعد القلق بشأن تأثير تلوث المياه على الصحة، يظهر أن الإجهاض ليس سوى جزء من المشكلة؛ فمخاطر شرب المياه الملوثة تمتد إلى التأثير في قدرة النساء على الإنجاب وممارسة حياتهن اليومية بشكل طبيعي.
بكلماتها، تشير زهراء كاظم -أم لطفلين- إلى تجربتها القاسية: “عانيتُ من التهاب فطري، حاولتُ علاجه بالوسائل التقليدية، ولكن تفاقمت حالتي مع مرور الأيام. شعرتُ بنزيف متقطع وآلام مبرحة، وأخبرني الطبيب أن هذه الحالة قد تؤدي إلى عقم”.
تضيف زهراء: “لقد تلقيتُ العديد من العلاجات وغيّرت الأطباء عدة مرات. وبعد إجراء تحاليل وزرع مخبري لاكتشاف الفطر الذي أصابني، أخبرتني الطبيبة أن هذا الوضع ناجم عن تعرضي للمياه الملوثة”.
وتظهر معدلات توفير الرعاية الصحية في أثناء فترة الحمل أن الدول النامية تواجه تحديات كبيرة في هذا الشأن، إذ شهد عام 2020 وفاة نحو 800 امرأة يوميًا لأسباب -يمكن الوقاية منها- تتعلق بالحمل والولادة، في حين حدثت وفاة نفاسية كل دقيقتين تقريبًا في عام 2020، وفق بيانات منظمة الصحة العالمية.
|
معاناة شهلاء وشهد وزهراء تمتد لتمثل نمطًا مؤلمًا يشترك فيه الآلاف من النساء في “ميسان”، اللائي يعانين من مجموعة متنوعة من المضاعفات والالتهابات البولية، تؤثر على حياتهن الصحية وقدرتهن الإنجابية، في حين تظل محطة مياه معالجة الصرف الصحي متوقفه عن العمل، لتلقي حمولتها الملوثة في الأنهار.
تم إنتاج هذا التقرير ضمن اطار مشروع أصواتنا المنفذ من قبل منظمة انترنيوز. |