ازهار علي حسين
“لسنا هنا بطرا ولا من اجل الاستمتاع بشم عطر الدخانيات التي ترميها علينا القوات الأمنية، فقد جئنا لهدف ولن نعود دون تحقيقه” تقول طيبة فاضل الشابة التي لم تتجاوز ربيعها الثامن عشر والتي تعمل مسعفة للمتظاهرين في ساحة التحرير.
أصيب شقيق طيبة الاصغر ست مرات في ساحة التحرير وقتل احد زملائها المسعفين امام عينها “لقد تناثرت أجزاء من رأسه ودماغه امام عيوني على الأرض” تقول طيبة بألم وتضيف “لن نعود ادراجنا فقد أبلغت امي ان تضع في مخيلتها أسوأ الاحتمالات ومنها فقداننا نحن الاثنين وباتت تفزع حينما يرن جرس الباب، لكنني لن انسى ان زميلنا الذي مات بطريقة بشعة لديه اماً كانت تنتظر عودته أيضا”.
تعرضت طيبة للتهديد والتسقيط على مواقع التواصل الاجتماعي مرات عدة من قبل الجيوش الالكترونية التابعة للأحزاب والسلطة، ووصلت الى هاتفها رسائل تهديد كثيرة لكنها لم تكترث، وذاعت شهرتها حينما اعتلت منصة مؤتمر عقدته اطراف مدعومة سياسيا في فندق بغداد وحمل عنوان “تنسيقيات اكتوبر” مرتدية كوفية حمراء جمع المتظاهرون عليها قطرات دم من ضحايا التحرير وصرخت بالمجتمعين “ان كنتم حقا ناطقين باسم المتظاهرين، فاعقدوا مؤتمركم هذا في ساحة التحرير، وليس في القاعات المرفهة”.
الشابة التي تدرس في المرحلة الأخيرة من الثانوية والتي لم تدرس الإسعافات الأولية يوما بل تعلمتها في ساحة التحرير تريد اكمال دراستها في مجال الطب.
الزائر لساحة التحرير يشاهد فتيات بعمر الورود تخلين عن ترف المراهقة وجمال الشباب، وأخريات تركن حياتهن وعائلاتهن ليقضين معظم اوقاتهن مسعفات ومساندات ومتظاهرات في ساحات الاحتجاج.
تبدو أولئك النساء مثل نحلات نشيطات يتنقلن بين خيام المسعفين بملابسهن البيضاء التي تنتشر عليها بقع حمراء من دماء الجرحى، تركض احداهن لإسعاف مصاب، وترافقه اخرى الى المستشفى خوفا من اعتقاله هناك.
زينب عبد داود القيسي تعمل موظفة في مديرية السلامة الاشعاعية والنووية، مسعفة أخرى من مسعفات التحرير تعرضت للإصابة بإطلاقات نارية ادت بها الى اجراء عمليتين جراحيتين، تقول زينب “عدت الى ساحة التحرير في اليوم التالي لإصابتي، بعدما اتممت العملية رغم الألم والخطورة، فهناك من يحتاج الى مساعدتي وكلما خففت من آلام المصابين خفت آلامي”.
زينب ام لثلاثة أطفال تكمل واجبات اولادها وزوجها لتعود من جديد الى ساحة التحرير، ورغم اعتراض الزوج والاهل على تواجدها ومقاطعتهم لها، مازالت زينب مستمرة ومصرة على التواجد كل يوم منذ انطلاق التظاهرات وحتى هذه اللحظة.
اسراء ابراهيم مسعفة وأم أيضا متواجدة في ساحة التحرير منذ الايام الاولى للتظاهرات تعرضت للضرب والشتم والاهانة من قبل قوات مكافحة الشغب لكنها عادت مرة اخرى لتواصل بإصرار عملها كمسعفة في الساحة.
اسراء ام لطفلة لا يتجاوز عمرها الخمس سنوات تصحبها يوميا مع والديها الى ساحة التحرير، تقول اسراء التي تخرجت من قسم المالية والمصرفية في كلية الادارة والاقتصاد “لم احصل على عمل رغم ان اختصاصي مطلوب في المصارف، في كل مرة اقدم اوراقي يطلبون مني الرشوة او يمنحون الوظيفة لأقارب المسؤولين، وهناك المئات مثلي هنا في الساحة او خارجها من الخريجين العاطلين عن العمل للأسباب ذاتها”.
المسعفة دعاء العلي طالبة في كلية الفنون الجميلة، تواجدت لوحدها منذ الايام الاولى في الساحة دون علم عائلتها إذ دخلت التحرير كمتظاهرة واختارت البقاء فيها كمسعفة مداومة على المجيء الى خيمتها كل يوم، فيما تخبر أهلها انها ذاهبة الى الجامعة، تقول دعاء “سيعلم اهلي بوجودي في الساحة في حال وفاتي واستلامهم الجثة، انا هنا من اجل اخوتي واهلي، انه واجب حتمي، ومسؤولية لا يمكنني التخلي عنها”.
حينما وصلت دعاء الى ساحة التحرير اول مرة لم تكن تملك الخبرة في التعامل مع حالات الجروح او الاختناقات التي تحصل في المكان لكنها اكتسبت خبرة لا يستهان بها بعد شهور من المظاهرات، واليوم اضطرت الشابة المسعفة الى حظر جميع افراد عائلتها من مواقع التواصل الاجتماعي كي لا يعلموا بوجودها في الساحة فتسبب لهم القلق.
طيبة وزينب واسراء ودعاء نماذج لعشرات المسعفات في ساحات التظاهر في العراق، إذ تمكنت تلك الفتيات من انتزاع تأييد مجتمعي لعملهن في تلك الساحات مثلما اكتسبن احترام المتظاهرين الشباب.
“وجودنا هنا هو ثورة اخرى امام ثقافة مجتمعية متأصلة عن أدوار المرأة في الحياة، لقد كسرنا الصورة النمطية عن النساء، فالتعليقات السلبية والشتم الذي كان يصلني في رسائل الفيسبوك في الأيام الأولى للمظاهرات تحول اليوم الى مديح، وبات الكثيرون يكتبون انهم فخورون بي، وهذا التغيير ما كان ليحدث لولا اصرارنا على التواجد في ساحات التظاهر” تقول طيبة وهي تشير الى باقي زميلاتها.
م/نقاش