تختلف آراء المختصين حول ما إذا بات التحرَّش الجِنسِيّ في العراق ظاهرة، خاصة بعد الاحتجاجات التي اندلعت في تشرين الأول/أكتوبر 2019، والتي شهدت دورًا فاعلاً ومؤثرًا للمرأة جسدته طالبات وفتيات يافعات ونساء من مختلف الشرائح الاجتماعية دون أن يتعرضن إلى مضايقات تذكر بل العكس تمامًا.
تقع الكثير من النساء ضحيةً للتحرّش الجنسيّ خاصة في مواقع العمل في العراق
لكن هذا لا ينفي وقوع الكثير من النساء العراقيات ضحايا للتحرّش خاصة في بيئة العمل، وبمعدلات تصل إلى 70% في القطاع الخاص وفق بحث نشره مركز “البيان” للدراسات أعدته الباحثة رغد قاسم، استنادًا إلى استبيان عبر فيسبوك.
“أزمة قيم”!
وقد مثلت مواقع ومنصات التواصل نافذة مناسبة لأعداد كبيرة من النساء لروايّة قصصهن مع “متحرشين”، في ظل عدم إمكانية البوح بها بشكل مباشر أو مقاضاة مرتكبيها، نظرًا للعادات والتقاليد الاجتماعية والتي تلقي باللائمة على النساء غالبًا في قضايا التحرّش وتعيب المرأة الضحية، أو خوفًا من تبعات ومشاكل عشائرية.
بالمقابل، يشكّك كثيرون في صحة تلك القصص التي تتداولها منصات مهتمة بحقوق المرأة وأخرى تابعة لمنظمات مجتمع مدني، إلا أن البروفيسور قاسم حسين صالح، رئيس الجمعية النفسية العراقية، يشير بوضوح، في مقال له، إلى تنامي حالات التحرّش نتيجة “أزمة قيم ناجمة عن أزمة سياسة، تتعلق بالضمير الأخلاقي تحديدًا”.
بيئة التحرّش!
وعلى الرغم من أن التحرّش قد يطال النساء في الشوارع أو الأسواق أو مركبات الأجرة على سبيل المثال، إلا أن مواقع العمل تمثل البيئة المثلى لـ “المتحرشين” في العراق، وفق روايات نساء عاملات تحدثن لـ”الترا عراق”.
اقرأ/ي أيضًا: من “أسلمة” صدام إلى الغزو الأمريكي.. التاريخ الدموي لسوق الدعارة في العراق
ويعد التحرّش الجنسيّ في العمل، أحد أشكال التمييز الجنسيّ غير القانوني، وكما يعرفه قانون العمل العراقي رقم (37) لسنة (2015): “أي سلوك جسدي أو شفهي ذي طبيعة جنسية، أو أي سلوك آخر يستند إلى الجنس، ويمسّ كرامة النساء والرجال، ويكون غير مرغوب وغير معقول، ومهينًا لمن يتلقاه؛ ويؤدي إلى رفض أي شخص أو عدم خضوعه لهذا السلوك -صراحةً أو ضمنًا-؛ لاتخاذ قرار يؤثر على وظيفته”.
“تبعني إلى مخزن الأزياء”!
تتحسّر مروة سمير ذات الـ 22 عامًا وهي تتحدث لنا عن حادثة تحرّش تعرضت لها في مركز للأزياء في مدينة الحلة إلى جنوب العاصمة بغداد، اضطرتها إلى التخلي عن وظيفتها.
تقول الفتاة، وهي طالبة جامعية، إن “الأمر بدأ بالتحرّش اللفظي من قبل مدير المركز، الذي كان يصف جسدي كلما مررت من أمامه، قبل أن يلحق بي في مرة إلى مخزن الأزياء حين كنت أعد بضاعة للبيع، وقد لمسني، لكني نجحت في الهرب منه، وغادرت موقع العمل فورًا دون عودة”.
تقصى “الترا عراق” عدة قصص عن التحرّش من فتيات عشن التجربة المريرة
تسببت الحادثة في أزمة نفسية للفتاة التي لم تعد تفكر في البحث عن عمل على الرغم من حاجتها إلى المال لسد مصاريف دراستها، كما تبيّن، ومثّل “كابوسًا” بات يطاردها وينعكس على علاقاتها حتى مع زملائها في الجامعة، على حد وصفها.
“رهان على مُطلقة”!
لكن خيار الهروب دون عودة إلى العمل قد لا يكون متاحًا لجميع النساء ممن يواجهن التحرّش، فعقود الحروب والأزمات الطويلة التي عاشتها البلاد خلفت أعدادًا هائلة من الأرامل والمطلقات اللواتي لا يجدن بدًا من مواصلة البحث عن لقمة العيش.
تقول “فاطمة كريم”، وهو اسم مستعار لمهندسة معمارية تعيش في مدينة الناصرية جنوب البلاد وتعمل في مؤسسة حكومية، إن “المطلقات يتعرضن إلى التحرّش بشكل أكبر من قريناتهن، بسبب الوصمة الاجتماعية التي تلاحقهن”.
وتروّي الشابة الثلاثينية لـ “الترا عراق”، بغضب جانبًا مما قاسته من مضايقات، “اضطررت إلى خوض إجراءات معقدة وطويلة للابتعاد عن محل العمل السابق، بعد أن أطلق عدد من الموظفين رهانًا حين عرفوا أنني مطلقة، وبدأ كل منهم محاولة الإيقاع بي وقد تجرأ بعضهم على التحرّش اللفظي”.
تعمل المهندسة الآن في دائرة أخرى غالبية موظفيها من النساء، على الرغم من أنها لا تتناسب مع تخصصها لتجنب المضايقات والتحرّش، كما تقول.
الحرب والميليشيات.. التحرّش يزدهر!
وتحدد دراسات اجتماعية، الحروب والظلم والكراهية كأبرز الأسباب التي تساهم في تخلخل المنظومات القيمية للأفراد، بحسب مختصين، ما يعني تفشي الظواهر السلبية في المجتمع كالتحرّش الجنسيّ وغيره.
وتقول المترجمة سنار حسن من بغداد، إن “الصراعات الطائفية والحروب التي عاشها العراق في العقود الأخيرة ساهم في زيادة أعداد الأرامل والأطفال الأيتام، ودفع المرأة إلى سوق العمل في ظروف معقدة مع غياب الدولة، لتكون فريسة للاضطهاد والابتزاز من قبل رؤساء العمل، أو حتى بعض رجال الدين الذين يستغلون فقر بعض النساء ويساومونهن مقابل منحهن ما يسد رمقهن”.
وتلفت ذات الـ 26 عامًا، إلى أن “هيمنة الميليشيات وانفلات السلاح ساهم في دفع النساء إلى العمل، بعد أن اضطر الكثير من الشبان إلى الهرب أو الاختباء، فضلاً عن الأسر التي فقدت معيلها بعمليات الاغتيال والاختطاف”.
ساهمت الحروب وهيمنة الميليشيات في تنامي حالات التحرّش الجنسيّ في العراق
وتبيّن في حديث لـ “الترا عراق”، أن “الجهل بقوانين العمل بسبب عدم الحصول على التعليم الكافي، فضلاً عن أسباب اجتماعية تحول دون الوصول إلى النظام القضائي، غالبًا ما يعرض النساء إلى الاستغلال ويساعد المتحرشين على الإفلات من العقاب”.
صمت.. وغياب الرادع!
يُمارس التحرش في الخفاء وتلتزم معظم ضحاياه الصمت، إذ تقول الباحثة رغد قاسم، إن 98% من النساء اللاتي تعرضن للتحرش لم يقمن برفع دعاوى قضائية ولم يخبرن صاحب العمل خوفًا من فقدان العمل، أو خوفًا من البوح به بسبب العادات والتقاليد الاجتماعية.
فيما يؤكد مختصون، أن إجراءات العراق ما تزال دون المستوى المطلوب للحد من حالات التحرّش الجنسيّ، فالمشرّع العراقي، وفقًا للأستاذ الجامعي والدكتور في القانون الدولي رياض السندي، “لم يورد تعريفًا محددًا للتحرّش في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل النافذ، بل أورده ضمن الجرائم المخلة بالأخلاق والآداب العامة”.
ويقول السندي، إن تعريف التحرّش الجنسيّ ورد في قانون العمل العراقي رقم 37 لسنة 2015 النافذ، ونص في المادة 11 منه بعقوبة الحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تزيد على مليون دينار أو بإحداهن على مرتكب التحرّش. وهي عقوبة مقبولة، كما يرى البروفيسور قاسم حسين صالح، “لكنها تتعرض لانتهاكات في التطبيق فضلاً عن عدم وجود ثقافة إعلامية تشيعها بين الشباب بشكل خاص”، على حد تعبيره.
“وَبَّخوه.. لكنه استمر”!
غياب رادع حقيقي يدفع ضحايا التحرّش غالبًا إلى خيار ترك العمل، وهو ما تشير إليه رانيا أحمد ذات الـ 27 عامًا، في حديثها عن تجربتها مع مدير في العقد السادس من العمر كان يتولى مسؤولية قسم في شركة في العاصمة بغداد.
وتقول بشيء من التردد والخجل، إن “الشكوى التي رفعتها ضده لم تمنعه من مواصلة التحرّش اللفظي وافتعال المشاكل، حتى بعد أن وجهت إليه إدارة الشركة تنبيهًا وتوبيخًا، ما دفعني إلى ترك الوظيفة التي أوفر منها تكاليف علاج والدتي التي تعاني مرضًا مزمنًا”.
“أفكار رجعية”!
ويعد التحرّش حالة معقدة لا يخلو منها مجتمع ما، وتشكل ظاهرة مقلقة ترتبط بـ “أفكار رجعية” منها عدم تقبل وجود المرأة في مواقع عمل رفيعة، كما تقول إسراء قيس التي تدير قسمًا في مصرف أهلي في بغداد.
وتبيّن ذات الـ 28 عامًا، لـ “الترا عراق”، أن “بعض الموظفين من الرجال يتذمرون حين تكليفهم بإنجاز شيء من المهام أو عند توجيه ملاحظات أو تنبيه حول تقصير ما، ويعتبرون ذلك مساسًا برجولتهم”.
يؤكد مختصون أن إجراءات العراق ما تزال دون المستوى المطلوب للحد من حالات التحرّش الجنسيّ
وتشير نتائج الاستبيان الذي اعتمدته الباحثة قاسم، إلى أن “80% من النساء سمعن أو شاهدن حالات تحرش في أثناء العمل بينما 42% تعرضن للتحرش بنحو مباشر، و27% منهن اضطررن إلى ترك العمل، و19% منهن اضطررن إلى تقديم تنازلات للحصول على عمل”.
“سلعة جنسيّة”
وعلى الرغم من أن متفاعلات مع قصص التحرّش الجنسيّ، يؤكدن أنهن يعملن منذ سنوات في مؤسسات غير حكومية ولم يتعرضن للتحرّش الجنسي، بل على العكس وجدن بالغ الاحترام، يرى آخرون أن أرباب العمل غالبًا ما يوظفون النساء “كسلعة للتسويق أو لغرض الاستغلال الجنسيّ”.
ويقول معتز أيوب، مدير مكتب تلفزيون “اليوم” السوري في العراق، إن “الكثير من مسؤولي الشركات ووسائل الإعلام يعتمدون على المظهر عند التوظيف معتقدين أن المرأة التي تعتني بمظهرها وأناقتها أكثر تقبلاً للتحرّش”.
ويضيف معتز لـ “الترا عراق”، أن “بعض أولئك يساومون المرأة على جسدها مقابل الوظيفة أو الترقية، ليكون مصيرها الطرد في حال واجهتم بالرفض”.
كيف نثبت التحرّش.. من المسؤول؟!
وتتلخص أهم أسباب التحرّش، وفق دراسات علمية، بـ “سوء التربية الأسرية والحالات الناجمة عن التفكك الأسري، الكبت الجنسي واعتبار التحرّش وسيلة ترفيهية من العناء، ثقافة مجتمعية متخلفة تزود المراهقين بفكرة أن التحرّش يعدّ نوعًا من الرجولة، ضعف الوازع الديني، عدم وجود عقوبات قضائية رادعة، وجود تاريخ سابق من التحرشات الجنسية أو تاريخ إجرامي أو تاريخ من الأمراض النفسية”.
وعن أسباب تناميه في العراق، تقول غادة غزوان عضو تحالف “المدافعات عن حقوق الإنسان”، إن “المجتمع يعطي الحق دومًا للرجل ولأسباب وحجج واهية ولا هم له سوى العيب والخوف من الفضيحة، بينما تصارع النساء العاملات التحرّش بالكتمان حفاظًا على سمعتهن من جهة، ولتجنب خسارة العمل من جهة أخرى، فضلاً عن صعوبة إثبات التحرش خاصة إذا ما بدر من أرباب العمل الذين يستغلون سلطتهم ونفوذهم”.
وتؤكد غزوان ذات الـ 33 عامًا لـ “الترا عراق”، أن “النساء العاملات يتعرضن إلى التحرّش بغض النظر عن السن، الحالة الاجتماعية أو مستوى التعليم وحتى نوع الملابس، حيث يتحدث مراقبون عن تنام لتلك الحالات لاسيما في القطاع الخاص من جانب زملاء العمل أو المدراء، في ظل غياب الرقابة والرادع”.
تقع المسؤولية الأكبر في منع تحول التحرّش الجنسيّ إلى ظاهرة على عاتق الأسرة والمؤسسات التربوية ووسائل الأعلام ورجال الدين
لكن رئيس الجمعية النفسية العراقية، يرى أن من غير الصحيح تحميل مسؤولية التحرّش الجنسيّ لطرف دون آخر، ويؤكد أن “كلّ الأطراف مسؤولة بدءًا من الفرد، شابًا كان أم فتاةً، مرورًا بالأسرة، والمؤسسات التربوية وصولاً إلى السلطة، غير أن نسب هذه المسؤولية تتباين من طرف إلى آخر”.
ويبيّن البروفيسور العراقي، أن “إصلاح العملية السياسية في العراق أمر صعب ما يعني أنها ستبقى منتجة للأزمات، ما يلقي بالمسؤولية الأكبر في منع تحول التحرّش الجنسيّ إلى ظاهرة، على عاتق الأسرة والمؤسسات التربوية ووسائل الإعلام ورجال الدين”.