بجهود الحركة النسوية في العراق أُنشئت “كوتا النساء ” كأداة تقدمية تهدف إلى ضمان حضور المرأة في البرلمان ومشاركتها الفعلية في صنع القرار، بعد عقود من التهميش السياسي والاجتماعي، وقد رُوّج للكوتا كنظام باعتباره خطوة نحو المساواة، وفرصة لإدخال صوت نسوي مؤثر في العملية التشريعية، إلا أنّ الواقع السياسي في العراق كشف انحرافاً جوهرياً في وظيفة الكوتا، إذ تحوّلت من وسيلة للتمكين إلى رصيد انتخابي تستغله الأحزاب لتوسيع نفوذها.
فبدلاً من تمكين النساء المستقلات وإعداد قيادات قادرة على الدفاع عن قضايا المرأة، أصبحت مقاعد الكوتا تُستخدم لتمرير مرشحات تدعمهن الأحزاب بهدف زيادة مقاعدها، وليس بهدف تعزيز التمثيل النسوي. ومع تطور التجربة الانتخابية، بات واضحاً أن العديد من المرشحات يصلن إلى البرلمان بفضل الماكينات الحزبية، لا بدعم شعبي أو رصيد مهني، ما جعل وجودهن شكلياً وخاضعاً للوصاية السياسية. وهكذا أصبحت المرأة في الواجهة، لكن القرار بيد الرجل الذي يقف خلف الحزب.
هذا الاستغلال أنتج تمثيلاً نسوياً ضعيف التأثير، حيث تُقيَّد النائبات بتوجيهات الكتلة، ويُحرمن من اتخاذ مواقف مستقلة، ويُستبعدن عن المواقع البرلمانية المهمة واللجان المؤثرة، الأمر الذي أدى إلى غياب التشريعات التي تعالج قضايا النساء بعمق، وإلى تراجع دور النائبات في الرقابة على ملفات العنف والتمييز والفساد، لأن الاهتمام الأكبر ينصب على إرضاء الجهة السياسية الداعمة بدلاً من خدمة الفئة التي وُجدت الكوتا لأجلها.
كما أن بعض الأحزاب تعتمد على آليات واضحة لتكريس هذا النفوذ، مثل تمويل الحملات الانتخابية للمرشحات المواليات، وتوجيه أصوات الجماهير عبر علاقات عشائرية أو اقتصادية، وتعيين مستشارين حزبيين لإدارة عمل النائبة، وحرمان المرشحات المستقلات من فرص المنافسة وبهذا تفقد الكوتا معناها الحقيقي، بعدما جرى تفريغها من مضمونها وتحويلها إلى شبكة سياسية مغلقة، وهذا ما افرزته الانتخابات التشريعية في العراق للعام 2025 حيث سيكون مجلس النواب الحالي ب (83) امرأة متحزبية فيما لم تحظى المرشحات المستقلات اللواتي رشحن منفردات وعددهن (13) امرأة فقط بأي فرصة للمنافسة والفوز والوصول الى مجلس النواب العراقي .
ويعتمد النظام الانتخابي الحالي في العراق بنحو أساسي على التمثيل النسبي للقوائم، مما يمنح أفضلية كبيرة للتحالفات والأحزاب الكبيرة التي تستطيع تجميع الأصوات، وهذا يجعل فوز المرشحين الأفراد بمقعد نيابي، وخاصة النساء منهم، مهمة صعبة للغاية، إلا إذا تمكنوا من حشد دعم جماهيري استثنائي يؤهلهم للمنافسة المباشرة مع القوائم، في حين أن كوتا الأقليات تقدم مساراً مختلفاً للمرشحين الفرديين ضمن إطار محدد.
وقد شهدت الفترة بين عامي 2023-2025 تعديلات على القانون الانتخابي خاصة بعد انتخابات مجالس المحافظات 2023، وبحسب المدير الأسبق للمفوضية العليا للانتخابات في العراق ورئيس شبكة “جاف” لمراقبة الديمقراطية وحقوق الإنسان، سربست مصطفى رشيد، فان تلك التعديلات التي أقرت في قانون رقم 4 لسنة 2023 “التعديل الثالث” لقانون انتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات والاقضية رقم 12 لسنة 2018، هي الأساس الذي يتم العمل به حاليا، والذي أثر بشكل كبير على نتائج انتخابات مجالس المحافظات التي جرت أواخر 2023.
ومن أبرز تلك التغييرات، العودة إلى نظام القائمة النسبية بطريقة سانت ليغو المعدلة، فبعد أن اعتمدت انتخابات 2021 النيابية نظام الدوائر المتعددة “مقاعد فردية” تم التراجع عن هذا النظام في التعديلات الأخيرة لقانون الانتخابات، ما قلل فرص المرشحين المستقلين.
وعاد القانون الحالي إلى اعتماد نظام القائمة النسبية بمعامل قاسم 1.7 بعد أن كانت 1.9 في فترات سابقة كما أصبحت كل محافظة دائرة انتخابية واحدة بعد أن كانت دوائر متعددة. وهذا يعني أن الناخب يصوت لقائمة انتخابية ضمن محافظته، وتُوزع المقاعد على القوائم الفائزة داخل تلك المحافظة.
والنتيجة النهائية هي وجود مجلس نواب جديد يخلوا من النساء المستقلات ليبقى القرار التشريعي محصوراً بيد الأحزاب التي تتعامل مع الكوتا كغنيمة انتخابية، وهذا يعود الى قانون الانتخابات العراقي الذي تم تعديله خلال الدورة التشريعة الخامسة ليكون فرصة للأحزاب التقليدية لتحكم سيطرتها على الاصوات الانتخابية .
وكانت انتخابات الدورة النيابية السابقة في 2021 قد شهدت ترشح 3,225، بينهم 946 مرشحة حققت فيها النساء نسب فوز عالية، إذ بلغ عدد الفائزات (95) لتتجاوز مقاعدهن نسبة الكوتا المقررة (83) مقعداً، وكان مجموع الأصوات التي حصلت عليها الفائزات 917601 صوتاً كما حصل الأفراد المستقلون على (43) مقعدا في مجلس النواب 2021 بعد مشاركة (789) مرشح ومرشحة من الأفراد المستقلين في الانتخابات أما في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2025، وقبل قرارات الاستبعاد التي أصدرتها مفوضية الانتخابات فقد كان عدد المرشحين الأفراد (87) فرداً، بينهم (14) امرأة الغالبية منهن مرشحات ضمن كوتا الأقليات، بحسب عضو الفريق الإعلامي للمفوضية العليا للانتخابات د.عماد جميل.
لذلك لبد من إصلاح كوتا النساء وهذا لا يعني إلغاءها بل إعادة ضبط آلياتها لتؤدي دورها الأصلي، فتمكين النساء يتطلب قوانين تمنع السيطرة الحزبية على المقاعد المخصصة لهن، وتشجيع الترشيح المستقل، وتعزيز حماية المرشحات من الضغوط السياسية، إلى جانب دور رقابي وإعلامي يكشف حالات الاستغلال ويعيد تشكيل الوعي الانتخابي.
في النهاية، تظهر التجربة العراقية أن المشكلة ليست في الكوتا ذاتها بل في الطريقة التي أُديرت بها واستخدمتها الأحزاب لتحقيق مكاسب سياسية وما لم تُسترد الكوتا لصالح النساء وتُحرر من قبضة النفوذ الحزبي ستبقى المرأة المتحزبة حاضرة في المشهد السياسي فيما تغيب المستقلة الفاعلة عن منصة عن القرار في السلطة التشريعية العليا في العراق .





