دينا امرأة عراقية تبناها زوجان حُرما من الإنجاب لعدة سنوات من إحدى دور الإيواء في بغداد عام 1980، ونقلاها إلى منزلهم واعتبراها ابنة لهما. تربت دينا في بيت كبير يضم أسرة والديها، وفي أحد الأيام عندما كانت في السادسة من عمرها، وصفها أبوها باللقيطة وهي تلعب بهاتف المنزل وتمزح معه، دون أن تدرك حينها معنى ذلك.
تقول دينا (49 عاما) إن معاناتها بدأت منذ ذلك اليوم، بعد أصبح جميع من في البيت يطلق عليها صفة “لقيطة” أثناء أي مزاح أو مشاجرة، وذهبت حينها إلى أمها لتروي لها معنى هذه الكلمة.
تتابع دينا “لم أعش طفولتي بشكل طبيعي، واعتاد أطفال العائلة وصفي بهذه التسمية حتى انتشرت بعد ذلك إلى الجيران والآخرين، وأصبحت منبوذة من الجميع صغارا وكبارا بدون ارتكاب أي ذنب، فكان الشعور بالعار يلاحقني دوما ولم أجد الشفقة إلا من أمي، وأصبحت في صراع ما بين الرغبة في اللعب مع أقراني أو تجنبه حتى لا تُجرَح مشاعري”.
وازدادت ظاهرة مجهولات النسب بعد الحروب وسنوات الحصار والأزمات التي مرّ بها العراق، وفي الوقت ذاته تستمر معاناتهن والنبذ الاجتماعي يُلاحقهن طوال حياتهن بسبب تهميش المحيطين بهن وامتهان كرامتهن.
ظلم المجتمع
وتؤكد دينا أن الشعور بالعار استمر معها طوال طفولتها، وأصبحت تكره المدرسة لأنها مكان يجمعها بأطفال أقاربها والجيران الذين ينظرون إليها باشمئزاز، وبسببهم أصبح حتى معلمو المدرسة يعرفون قصتها وينظرون إليها بعين الشفقة، “مما اضطرني لترك الدراسة دون إكمال المرحلة الابتدائية”.
وتتابع قائلة: “لم أجد تعاملا طبيعيا معي كبشر وإنسانة، بل كنت أشعر أني أقل من أقراني ولا أعرف كيف أتصرف سوى باللوذ بالصمت أو ضرب من يتقصد إهانتي أو يتنمر عليّ، فالإحساس بالظلم مؤلم ودفعني إلى الانعزال والوحدة رغم أننا نحو 20 شخصا نعيش في بيت واحد، وغالبا ما أجد نفسي وحيدة رغم محبة والداي، لكني أسمع الكلمات الجارحة في حال حدوث أي خلاف معهما، وهو ما انعكس على سلوكي مع الآخرين”.
وتتحدث دينا عن زواجها قائلة “تزوجت 4 مرات وانفصلت، وأصبح لدي 4 أطفال. وانعكست خبرات الطفولة على واقعي وحملت الكثير من الصفات السلبية نتيجة ما واجهته من عنف وإقصاء. ورغم أن والديّ كانا ينفقان عليّ كل أموالهما، وتسببت في خساراتهما المادية عدة سنوات، فإنني لست نادمة على شيء، لأن ما واجهته بسببهما ظل يلاحقني حتى بعد أن تجاوز عمري 40 عاما”.
وتضيف “بعد مرض والدي سكنت مع والدتي، ورفضتنا بعد ذلك عائلة والدي ولم تستقبلنا حتى لزيارتهم. ولا أنسى نظراتهم المريبة كلما التقيت بهم، وما زلت في عيونهم تلك البنت اللقيطة التي لا تشرفهم، وتفاقم ذلك بعد فشلي في زواجي، فلم أشعر يوما بانتمائي إلى عائلة تحتويني فعلا، بل كنت مجرد طفلة وجدوا فيها ما يلبي احتياجاتهم، بالتالي عشت الضياع”
كرماء النسب
ويطلق وصف مجهولي النسب على الأولاد غير الشرعيين من علاقات جنسية محرمة خارج إطار الزواج، أو نتيجة اغتصاب، أو من نسب صحيح لكن استغنى عنهم آباؤهم فلم يُعرف نسبهم.
وفي خطوة إيجابية، قررت هيئة رعاية الطفولة التابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية العراقية عام 2014 إطلاق صفة “كريم النسب” على هؤلاء بدلا من “مجهول النسب”، للتخفيف من قساوة الوضع بفقدان هوية الوالدين.
وازداد وجود كرماء النسب في الآونة الأخيرة ممن يتم تركهم قرب مكبات النفايات أو في الشوارع أو المساجد أو في دور الإيواء، ولا يتم احتواؤهم كضحايا إلا ما ندر، وذلك يعود إلى العلاقات غير الشرعية خارج إطار الزواج وشيوع ظاهرة التفكك الأسري والطلاق وغياب الوازع الديني والاستعمال الخاطئ للإنترنت في مجتمع محافظ لا يتسامح مع الأمهات، فتقتل النساء وتُحسب جريمة شرف إذا اكتُشف أمرها، بينما لا يحاسب الرجل على خطئه كجزء من ثقافة اجتماعية، وتبقى النظرة الدونية والوصمة الاجتماعية تلاحقهم.
دعم العائلة
وعلى غرار دينا، تتحدث ميساء (61 عاما) التي عاشت تجربة مغايرة بمجرد كتمان عائلتها الموضوع، فتقول “قدمت والدتي الرعاية الكاملة لي طوال فترة طفولتي، وأنفقت عليّ طوال مدة تعليمي، وعندما كنت في عمر المراهقة أبلغتني أنني مجهولة النسب، وأنها أخذتني منذ كان عمري عدة أيام، وكانت حريصة على عدم معرفة أحد، وأكملت تعليمي وتزوجت ولم يعلم أي أحد، ولم أتجرأ على كشف ذلك، وأصبح لديّ أولاد، وكنت حريصة على المحافظة على السر، لأني على يقين من أن المجتمع لن يتقبَّلني، وسيؤثر ذلك على عائلتي ويخرب كل الأشياء الجميلة في حياتي، رغم أنني لست مذنبة ولكن المجتمع ينظر بدونية لكل مجهولي النسب”.
وتشير ميساء “أكملت تعليمي وحصلت على الشهادة الجامعية وأصبحت أمّا ناجحة، وأحظى باحترام وتقدير المجتمع دوما، لأني فرضت نفسي بقوتي وكتماني للسر ورعاية العائلة التي تبنتني، ولم يجرؤ أحد على فتح هذا الجانب من حياتي”.
وتضيف ميساء “عملت بكل ما أستطيع لأكوّن عائلة ناجحة وفخورة بها، ولم يعلم زوجي ولا أحد عن موضوع نسبي المجهول، ولم ينعتني أحد يوما ما بأني مجهولة النسب، بل عشت حياتي بشكل طبيعي، وكل ذلك لم ولن يتحقق من دون إخفاء والدتي للسر طوال حياتنا، لأن بيئتنا لا ترحم ولا تتعاطف مع مجهولي النسب، حتى إن كانت عائلة محترمة”.
الأثر النفسي
وتبيّن الباحثة النفسية الدكتورة نهى عبد الله، أن “كريم النسب يعاني من أزمة هوية مضاعفة، لأن الهوية الشخصية والعائلية مفقودة لديه، فهو لا يعرف شيئا عن والديه، وبالتالي لا يعرف الانتماء، في وقت نجد فيه أقرانه ينتمون إلى آبائهم ويفخرون بانتسابهم لعائلاتهم، أما هو فيشعر بأنه يقف على أرض رخوة وهشة. فهوية الإنسان تشكل مطلبا أساسيا للفرد، وحين تكون غامضة أو مشوهة أو مجهولة فإنها تجعل البناء النفسي كذلك”.
وتشير الباحثة العراقية إلى أن “الأبحاث النفسية لمجهولي النسب تبين أن لديهم اضطرابات انفعالية وسلوكيات عنف مثل السرقة والسلوك العدواني وعدم تقدير العواقب، وهذه الاضطرابات تكون لها أسباب وراثية وفطرية وبيئية مكتسبة، كما أن الجو النفسي الذي ينشأ فيه مجهول النسب منذ بداية الحمل مرورا بظروف الولادة وحياة الطفولة والمراهقة، ووصولا إلى تعامله مع الحياة، يعطي في الغالب تأثيرات سلبية على سلوكه”.
من جهته، يشير الباحث الإسلامي في كلية العلوم الإسلامية الدكتور فائق الحمطاني، إلى أن “كرماء النسب في الشريعة الإسلامية ليس لهم ذنب، ولا سيما أن الشريعة تحث على الأخلاق والعدل والحرية والحقوق وحفظ النفس والنسل والأعراض”، ويضيف “أن الشريعة أكرمت كريم النسب وفرضت بأن يحظى باحترام وتقدير المجتمع، ويؤجر من كفله وجعلته كاليتيم، وحث على العناية به كاليتيم لأنه لا ذنب له في ذلك”.
وزر الآباء
وتعقيبا على ذلك، يشير الباحث الاجتماعي الدكتور ثائر العمار إلى “أن المجتمع العراقي يحمّل الطفل الكريم النسب وزر آبائه، وينظر له باحتقار ودونية، رغم أنه ضحية سياسة اجتماعية خاطئة وعدم حصوله على ذلك سيؤدي إلى انحرافه”، وطالب الحكومة بالعمل على زيادة الوعي الاجتماعي والإرشاد النفسي، في محاولة حل مشكلاته هذه الفئة التي تعجز الأسر عن معالجتها، نظرا لقلة الثقافة لدى أولياء الامور، لتدارك شعورهم السلبي وعدم ترجمته لأفعال غير محسوبة بين الجنسين.
واعتبر أن “العنف الاجتماعي ضد كرماء النسب سيكون بمثابة موجه وراع لإنتاج العنف لديهم وتحويلهم إلى قنابل موقوتة أو مشاريع إجرام واستغلال، والشعور بأن الشخص منبوذ وصمة تقلل من شرفه واحترامه، وتؤدي حتما إلى انزلاقه في طريق الانتقام والإيذاء كأحد الأساليب الدفاعية، للتخلص من الشعور السلبي تجاه مجتمع لا يشعر بالانتماء له”.
أما رئيس منظمة سومر لحقوق الإنسان علي عباس الوائلي، فيرى أن الإنسان يولد حرّا، وأي امتهان وتجريح لكرامته انتهاك واضح لحقوق الإنسان، وهذا حق أشار إليه الدستور العراقي وأقرّته كل المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، مؤكدا رفضه لأي انتهاك يتعرض لها مجهولو النسب في العراق.