نغم مكي- البصرة
لا تعرف أم فلاح عمرها بالضبط، ربما صارت على حواف السبعين، لكن جسمها الرقيق مازال قادراً على افتراش قطعة كارتونية إلى جانب الطريق في سوق الصفاة في مدينة البصرة حيث تعرض بضاعتها البسيطة من أضمومات النعناع والمقدونس الطازجة.
اختارت أم فلاح هذه النقطة في السوق إلى جوار محل يبيع العطور، فتختلط رائحة العطر بروائح الخضروات الطازجة، وعلى الجهة المقابلة منها كان بائع الفواكه يصيح على بضاعته فيتلاشى صوته في صوت الزحام وأحاديث المتبضعين في السوق.
أربعون سنة
بينما كانت تشذب أطراف الخضروات بيديها المتشققتين وترش قطرات الماء على الأوراق الخضراء تستعيد أم فلاح الأيام الأولى من عملها في بيع الخضار قبل نحو أربعين سنة فتقول، “توفي زوجي أثناء حرب ايران فوجدت نفسي أرملة وأم لطفلين، بنت وولد، وما زلت مستمرة بهذه المهنة إلى اليوم”.
تكمل أم فلاح قائلة “أشتري بضاعتي من علوة المخضر في كراج السيارات بثمن زهيد وأبيعها بربح قليل وأحيانا لا أبيع” مضيفة أن الظروف المعيشية حتّمت عليها العمل على أن تطلب الحاجة من الناس، متممة كلامها بعبارات الحمد والشكر.
تبدأ ام فلاح عملها الساعة السابعة صباحاً بوضع سلة الخضروات على رأسها بعد شرائها من تجار الجملة ثم تسير بخطوات مثقلة ومتعبة متحملة عناء الطريق وحرارة الشمس الملتهبة صيفاً والبرد والمطر شتاءً إلى أن تصل مكانها المعتاد لتبيع ما اشترته مكتفية بربح بسيط بمقدار 500 دينار يومياً.
وبعيون غائرة ووجه متعب ونبرة صوت لا تكاد تسمع تقول أم فلاح، “أتحمل كل هذا لأجل أن أجمع تكلفة علاج ابنتي المريضة”.
لا تمر الأيام على هذه السيدة متشابهة، فقد يحصل أن تمضي يومها كاملاً في السوق دون أن تبيع أي زبون، “عندما لا لأبيع شيئاً أفقد شهيتي ويزداد تعبي”، ثم تهرب من بين شفتيها ضحكة قصيرة وتقول “ما تشوفيني شلون صايرة”.
مضايقات السوق
بمسافة ليست ببعيدة عن السيدة أم فلاح تجلس امرأة اخرى متشحة بالسواد تضع أمامها طبقاً من المعجنات المصنوعة بأيديها.
تخبرنا السيدة الأربعينية أم حسين عن حرفتها التي تعيل منها بناتها الصغار وابنها قائلة، “بدأت العمل هنا قبل نحو 17 عاماً عندما توفي زوجي وبدأت الأحوال المادية تضيق بنا.. فكرت يومها في حلّ ينقذ أسرتنا فلم أجد أفضل من صنع المعجنات.. شغلة أعرفها وأحبها”.
وكما هو الحال مع أم فلاح، تبدأ أم حسين يومها مع شروق الشمس، تصنع المعجنات والحلويات وتغلفها لتصبح جاهزة للبيع”.
إلا أنها تبدأ البيع بين الساعة الرابعة والسابعة مساءً عندما تغلق المحال في السوق بما فيها محال الأطعمة.
وتشير أم حسين إلى أن البيع بالسوق في هذا التوقيت عرضها لكثير من المضايقات، “لكني لا أعطي مجالاً بالتعدي عليّ أو قبول هذه المضايقات كما أن لدي ابن صغير وأخاف عليه وجلوسه بقربي أثناء البيع خفف من المضايقات والتحرش”.
وتتابع أم حسين كلامها قائلة إن “الكثير من أصحاب المحال ساعدوني معنوياً بمنع أي شخص من مضايقتي وكثيراً ما ألجاً إلي أحد الجيران في حال تعرضت لمكروه”.
وتوضح بائعة المعجنات أن أهلها لم يعارضوا عملها في السوق، “بل فضلوا عدم التدخل والاكتفاء بالمرور الطفيف على مكان عملي، للاطمئنان عليّ”، مؤكدة أنها رغم كل الصعوبات متمسكة بعملها الذي يؤمن لها مصروف أسرتها ويسدد إيجار منزلها.
بائعة الخوص
في شارع آخر من سوق الصفاة تفترش سيدة أخرى الرصيف لا تراها بوضوح إلا إذا اقتربت جيداً منها، فالسيارات المركونة بالقرب منها تمنع رؤيتها.
تجلس السيدة السبعينية أم عبدالله على الأرض تمسك مروحة مصنوعة من الخوص (سعف النخيل) للتخفيف من حر الصيف وأمامها بضاعتها المصنوعة أيضاً من سعف النخيل رتبتها بعناية.
تتحدث أم عبد الله عن حرفتها في بيع منتجات الخوص قائلة: “لقد بدأت بها منذ سنين.. كنت ابيع أنا وزوجي المرحوم، نتعاون فيما بيننا، ثم أكملت العمل لوحدي بعد وفاته”.
اعتادت هذه السيدة على شراء بضاعتها من أماكن مختلفة من المدينة، أو من قضائي أبو الخصيب أو الزبير المجاورين، تدفع ثمنها نقداً و أحياناً بالدين أو بعبارتها “يسامحوني بثمنهن” اذا لم يتوفر لديها المال وتسدد ثمنها لاحقاًَ،
ورغم عدم تمكنها من صنع الخوص بنفسها إلا أن خبرتها في البيع ساعدتها على معرفة من أي جزء من النخيل تصنع. تشير بيديها إلى سلة الخوص وتؤكد أنها مصنوعة من “عثگ النخيل” تضاف اليها ألوان لتزيينها، أما السفر والمكانس فتصنع من سعف النخيل.
وتبيع أم عبد الله بعد الظهر فقط “لعدم قدرتي على التعب بسبب كبر سني وآلام مفاصلي”، وتتجنب بيع الخوص إلى أصحاب المحلات لأن هامش الربح آنذاك يضيق، فهي بالكاد تربح عن كل منتج تبيعه حوالي الألف دينار.
المتجول في سوق الصفات، يعثر على شبيهات كثر لأولئك النساء الثلاث، يجمعهن الكدح والتعب وحب العمل، في سبيل إطعام أطفالهن وإعالة أسرهنّ.
تأتي هذه الحلقات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج إقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD)، وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الإعلامية (CFI).