صباح كل يوم تصل “هناء خلف” إلى بناية روضة الأطفال الأهلية التي لا زالت قيد الإنشاء لتكمل فيها ما انهته بالأمس من صبغٍ ومعالجةٍ للجدران وصناعةٍ للديكورات الخشبية.
عمل قد يكون غريباً إلى حد ما في الأوساط المجتمعية التي تعيشها هذه الفتاة الثلاثينية، فهي تسكن مدينة الناصرية جنوبي العراق، في مجتمع تغلب عليه التقاليد العشائرية الصارمة.
ارتأت هناء أن تشق طريقها نحو العمل العضلي الذي لا يجاريه إلا الرجال، وهو صبغ الجدران وصناعة الديكورات، فضلاً عن امتلاكه روحاً فنية في الرسوم الكارتونية والتعليمية التي تقوم برسمها.
ألسنة الناس
ما أن تطأ قدما “هناء” وسط تلك البناية حتى تبدأ بارتداء بدلة عملها البيضاء واضعة قفازات في كفيها وأمامها مجموعة من دِلَاء الأصباغ والدهان ذات الألوان المختلفة.
تقول إنها باشرت العمل في هذا المجال منذ خمس سنوات تقريباً بعد أن تعثر الظرف الاقتصادي لعائلتها، وتضيف: “حاولت أن أجمع بين العمل وكسب الرزق من جهة، وبين ميولي الفنية وحبي للأطفال من جهة ثانية”.
لكن هذه السيدة لم تسلم من “ألسنة الناس” على حد وصفها، “فهناك من يرى أن عليّ اللجوء إلى أعمال تليق بالمرأة ضمن الظروف الاجتماعية الحالية بدلا من مزاحمة الرجال، وآخرون يرون أن البيت هو المكان الأنسب والبعض ينصحونني بأن أحصل على مرتب شهري من دائرة الرعاية الاجتماعية بصفة عاطلة عن العمل”.
وتتابع هناء أن أذناها لم تعرا اهتماماً للانتقادات التي وجهت لها، فأطفالها وزوجها وأصدقاؤها المقربين كانوا أول المشجعين لها، خصوصاً بعد أن أبهرت الجميع في أول عمل لها في إحدى المدارس الأهلية وما أن اتمت جزءا منه حتى تلقى هاتفها النقال اتصالاتٍ من مستثمرين و زميلات لها للعمل كصبّاغة أو منسقة لديكور في مدارسهن الأهلية.
عالم أكثر صدقاً
تتنقل “هناء” بين جدران القاعة الأربعة حاملة سلماً حديدياً، تتسلقه حتى نهايته ومعها دلو فيه صباغ أحمر اللون، لتقوم بطلاء الجدار بالفرشاة.
بينما تعتلي السلم كانت تتحدث أن شهادة الدبلوم العالي التي حصلت عليها منذ سنوات لم تمنعها من ممارسة عمل يحفظ كرامة المرأة في ظل انحسار فرص التعيين وزيادة العاطلين في المجتمع، ثم تكمل حديثها قائلة إن “على المرأة أن لا تنتظر من الآخرين الصدقات والمساعدات بل عليها أن تخوض مضمار العمل في شتى المجالات”.
وتكمل “هناء” أن متعتها الأكثر خلال عملها هي في الرسم، فتحاول في كل مرة أن تجد أشكالاً كارتونية مضحكة وجذابة للأطفال.
وهي شديدة التعلق بالأطفال حتى أنها تستغل أحد أيام الأسبوع لتقوم بالتدريس بشكل مجاني في إحدى تلك المدارس لا لغاية مالية بل لشدة تعلقها بهذا العالم الذي تراه “أكثر نقاوة وصدقاً” فتعمل على تعليمهم الحروف العربية أو بعض المواد الحسابية.
لا أحتاج أحد
أثناء كلامها انتقلت هناء إلى جدار القاعة الأخرى مكتملة الألوان لتمسك بقلم الرصاص وتخطط على الحائط رسمة هي عبارة عن قطار كبير يحمل حروفاً باللغة الإنجليزية، وهو رسم تجده هناء ملفتاً للطفل يتساءل من خلاله عن الأبجدية الانجليزية ويتعلم منه.
أعمالها التي تجاوزت الـ 50 عملاً لم تجني على هناء أرباحاً طائلة بل هي “مبالغ كافية لي ولعائلتي كيف لا نحتاج أحد”، مضيفة أن أحد أهدافها من خلال العمل أن تحقق شيئاً لها ولعالم الطفولة الذي يحتاج الكثير من الرعاية والاهتمام من الجميع.
وبين زخم العمل والتدريس تارة والأعمال التطوعية تارة أخرى تحاول “هناء” أن تجد وقتاً إضافياً لأجل إشراك نفسها في المنظمات النسوية لتحفيز نساء مجتمعها على تعلم مهن جديدة وخوض مشاريع مبتكرة، أو على حد قولها.
تأتي هذه الحلقات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج إقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD)، وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الإعلامية (CFI).