أمام إحدى محاكم الأحوال الشخصية في العاصمة بغداد، تحمل شابة عراقية (١٨ عاما) صغيرتها بين ذراعيها، باحثة عن حلول قانونية تعيش بمقتضاها مع ابنتها. تأتي (م. ف) الى المحكمة منذ فترة وبشكل دائم من أجل استخراج الأوراق الثبوتية لطفلتها والحصول على النفقات بعد ان انفصلت عن زوجها. تسأل الشابة الأم، المحامية التي أوكلتها لاستكمال الاجراءات القانونية عن قضيتها، وتطمئنها هي بدورها على سير الأمور ولا داعي للقلق. تتكأ الأم على جدار المحكمة وتنتظر.
تعود مشكلة هذه الأم الشابة الى عقد قرانها على أحد أقربائها وهي في مقتبل عمرها، خارج المحاكم، أي عقد قران في المكاتب الدينية لعقد الزيجات، انما وجدت نفسها في المحاكم كي تخلص نفسها ومستقبل ابنتها من آثار زواج، أجبرته عليها أوضاع عائلتها الفقيرة. حدث ذلك في احد أيام صيف قائض، وهي لا تتجاوز (١٥) ربيعاً من العمر ولا تعرف شيئاً عن الزواج. لم يكن عقد القران ذاك، سوى بداية لمشوار طويل من العناء والتعب اللذين عاشتهما الشابة في السنوات التي تلت زواجها المبكر بقرار من عائلتها. “كنت في ذلك الوقت اعيش حالة من الارتباك والقلق والخوف من المجهول، كيف بمقدور فتاة بمثل سني مازالت طفلة ان تتحمل مسؤولية زوج ومنزل واطفال مستقبلا، تجمعت وتحركت كل تلك المخاوف كظلال سوداء امام عيني وانا احاول استيعاب ما يحصل”. تقول الشابة.
لم تكن (م، ف) هي الضحية الوحيدة أمام المحكمة، بل كانت تتجمهر معها العشرات ممن تم عقد قرانهن لدى رجال الدين وقدمن الى المحكمة لاستخراج اوراق ثبوتية لهن ولأولادهن. تحتفظ الشابة (م، ف) بألبوم يحتوي على صور لحفل زفافها الذي اقيم في دار عائلتها الصغيرة بعد ان اكملت اجراءات العقد خارج المحكمة. تظهر في الصور وهي ممسكة بإكليل من الورد وملامح التيه والاغتراب واضحة على ملامحها الطفولية. تدمع عينيها وتروي:
“كان هناك مزيجا من مشاعر الخوف والسعادة تختلطان ببعضهما، كان يتم زفي الى قريبي ومن المفترض ان أعيش معه بسعادة، خاصة انه وعائلته كانوا ميسوري الحال، بينما كنت وعائلتي بالمقابل، نعاني من شظف العيش، حيث كان يعيلنا والدي الكبير في السن انا واخوتي الأربع. لقد قام والدي بتزويجي من قريبه الذي ذقت على يديه وعائلته لاحقا أقسى انواع العذاب”. وفي السياق ذاته، يشير طالب جامعي (ع. ف) يمتنع عن ذكر اسمه، الى انتشار الزواج من فتيات صغيرات ومن اسر تعاني العوز والفقر خارج المحاكم. ويقول الطالب الجامعي، “أقبل صديق لي على الزواج أكثر من مرة، وكان يختار فتيات صغيرات في السن لأشهر قليلة ويبرم العقود في احدى المكاتب الدينية، رافضاً فيما بعد تصديق عقد الزواج في المحكمة”. تالياً، كان ينتهي الزواج بالانفصال. ويرجع الراوي السبب، بناءً على زيجات صديقه، الى انتشار الفقر بين الكثير من العائلات العراقية.
لم تشعر (م. ف) بالاطمئنان من زواجها وبقيت المخاوف تلازمها منذ الايام الاولى من الحياة الزوجية. لقد بدا زوجها مرتاحاً جراء عدم اتمام العقد في المحكمة، بينما هي كانت تشعر بالخوف وتستحضر صورة احدى قريباتها التي تزوجت مثلها زواج ديني بعيداً عن القوانين المدنية. توفت قريبتها أثناء الولادة بعدما انجبت توأمين كما تروي، لكنهما حرما الى يومنا هذا من اوراقهم الثبوتية، بسبب تخاذل والدهم عن اتخاذ اي اجراءات قانونية لتثبيت النسب، وهو أمر يؤدي الى حرمان التوأمين من حقوق كبيرة، منها حقوق التعليم.
على رغم كل ذلك حملت (م. ف) بعد ستة أشهر من الزواج وهي لم تبلغ ستة عشر عاماً. وقد أصابتها ردة فعل زوجها بالذهول حين عرف بحملها، وسيطرت عليه حالة من الهستيرية والصراخ، معللاً الأمر بكونه غير مستعد ليكون أبا في تلك المرحلة. لم يتوقف الأمر عند الصراخ، بل طالبها بإجهاض الجنين، ولكنها رفضت أوامره وفضلت الاحتفاظ به، مما دفع بهما الأمر الى الانفصال بعد الولادة وتلته معركة اثبات النسب لابنتها. تقول الشابة الأم، “بدأت أعي مع الوقت حقوقي التي فرطت بها آنذاك بسبب صغر سني وقلة خبرتي في الحياة، وانا اليوم أحمّل والدي مسؤولية وجعي وحزني “.
حين ولدت ابنتي ثارت ثائرة زوجي، لأنه كان ينتظر ولادة صبي وليس فتاة، الأمر الذي زاد من رفضه تصديق العقد في المحكمة وقد وقفت عائلته معه بهذا الخصوص:”شعرت بأنني وصلت الى طريق مسدود في علاقتي الزوجية، لذلك اتخذت قرار الانفصال وتربية ابنتي بمفردي، وانا اليوم احاول اكمال دراستي والحصول على شهادة تؤهلني للحصول على عمل ما لإعالة نفسي وابنتي، فانا لم أحصل من هذا الزواج لا على نفقة ولا حقوق مادية ولا معنوية، فضلا عن حرمان صغيرتي من النسب”.
تشير الباحثة بالشؤون الاجتماعية سدى الخفاجي الى ان العوز المادي والفقر قد يدفع بالكثير من الآباء الى تزويج بناتهم لأناس ليسوا على قدر من المسؤولية والوعي، وأحيانا يكونون طائشين ورافضين فكرة تأسيس العائلة، الأمر الذي يترك مشكلات وآثار نفسية واجتماعية على الطفل الذي يثمر عن هذا النوع الزواج المبكر وغير القانوني، ناهيك باستيلاب حقوق الزوجة. أما الأكاديمية والناشطة المدنية الدكتورة بشرى العبيدي، فتؤكد على ضرورة قرع ناقوس الخطر لما يحصل من زيجات خارج المحاكم، ذلك انها انتشرت بشكل ملحوظ مؤخراً، حيث يتم توثيق حالات الزيجات الدينية اضعاف تلك المنعقدة في المحكمة، مما يهدد النسيج الاجتماعي جراء زيادة حالات الطلاق بعد هذه الزيجات.
القاضي في الاحوال الشخصية علي الدراجي اشار الى ان قانون العقوبات العراقي في مادته العاشرة الفقرة 5 أدرج عقوبة الحبس لمدة ستة أشهر ودفع غرامات مالية لمن يقدم على الزواج خارج المحكمة، وفي حال رغبة الزوج بتصديق عقد زواجه لابد ان يمثل امام القضاء لتصديق العقد وتثبيته. يذكر ان مجلس القضاء الاعلى وعبر موقعه الالكتروني يصدر احصائيات الزواج والطلاق لجميع أشهر السنة بشكل مستمر، وبدا واضحا الارتفاع غير المسبوق بحالات الزواج خارج المحكمة ففي أشهر معينة تخطى الحاجز الألف زيجة بالشهر الواحد، وتذكر تلك الاحصائيات انه في شهر شباط عام 2019 وصلت حالات تصديق الزواج الخارجي الى مايقارب 4.758 اما الطلاق فقد وصل الى 4.266، وبالنسبة لشهر اذار لنفس العام فقد وصلت الى اكثر من 4الاف زيجة بالمقابل كان هناك اكثر من 5000 حالة طلاق، اما في شهر كانون الثاني عام 2020 فقد تجاوزت عقود الزواج الخارجية اكثر من 3الاف حالة اما الانفصال فقد تجاوز ال 5000، فضلا عن احصائيات 2021 التي بدت مرتفعة هي الاخرى.
وتؤكد الاكاديمية الدكتورة بشرى العبيدي على انه قبل عام 2003 لم يكن هناك مكاتب للزيجات الدينية، بل كانت المحكمة هي الوجهة الاولى لإبرام عقود الزواج ومن ثم يليه العقد الديني، ولكن بعد سقوط النظام وتحديدا في اعوام (2004، 2005، 2006) كان هناك اقبال غير مسبوق على عقد الزيجات الدينية، لصعوبة الظروف حيث كانت الطائفية تعصف بالبلاد، مما حدا بالمحاكم لاحقا ان تتهاون مع المخالفين وتنجز عقودهم القانونية، في حين من المفترض ان لا يجري التساهل مع هكذا مخالفات خطيرة تهدد النسيج الاجتماعي ورابطة الاسرة بأكملها.
الباحث ورجل الدين الشيخ حسام البغدادي يوضح ان هناك العديد من الازواج يفضلون عقد قرانهم الديني اولا ثم تصديقه في المحكمة. ويقول في هذا السياق، “وبما أن الدين الاسلامي يحافظ على كرامة المرأة، لابد من احترام القوانين الوضعية التي تنظم الحياة”. ويحث البغدادي على عقد القران القانوني، متحدثاً كيف ورده اتصال في أحد الأيام من أحد القضاة للتأكد من العقد الديني الذي أبرمه بنفسه، وذلك لان الزوج قد أنكر الأمر، مما دفع بالشيخ البغدادي الى تأكيد الزواج، وحصول الزوجة لاحقا على كامل حقوقها.
يرى القاضي ناصر عمران الموسوي ان الزواج له قدسية فهو عقد بين رجل وامرأة بغية تأسيس عائلة مترابطة ومنسجمة مع بعضها، ولأن الزيجات خارج المحاكم اصبحت هي الرائجة لذلك لابد من وضع حد لها، ويعد هذا النوع من الزواج بمثابة جريمة لأنه يبرم بعيدا عن اعين القضاء والقانون. ويحذر الموسوي من خطورة ترسيخ المنظومة الثقافية والبيئية والدينية لهذه الممارسات، لاسيما في اذهان المقبلين على الزواج في ظل اعتقاد سائد يعتبر بان العقد الصحيح هو الذي يتم امام رجل الدين او الشيخ، وهو من يمنح الشرعية للزواج وليس سواه. هذه فكرة خاطئة برأي الموسوي، ذلك ان العقد ضمن ما يراه المذهب الجعفري يقتضي معرفة تأدية الصيغة وتحقق الايجاب والقبول ويتم بدون حاجة الى الشهود على يد رجل دين فقط، بينما يوجب القانون وجود الشاهدين كشرط أساسي لإتمام عقد الزواج وفق رؤية القانون المستند في جذور نشوئه على مجلة الاحكام العدلية التي اخذت معظم احكامها من المذهب الحنفي.
يؤكد الموسوي على ضرورة مكافحة ابرام عقد الزواج خارج المحكمة عبر خطوات جادة، منها تنفيذ مشروع وطني للثقافة القانونية يأخذ على عاتقه القيام بترسيخ القيم والمفاهيم القانونية واحترام القانون، وذلك عبر بناء آلية تسعى للتركيز على ان محور التقدم والنهوض في البلد يرتبط بمدى احترام واستيعاب القانون كسلوك وطريقة وعقيدة كونه الخالق للنظام. وفي ظل النظام تتحدد مديات الحريات والالزام والالتزام والحقوق التي يعرفها المواطنون. ويستوجب مثل هذا المشروع تبني حكومي فيما خص تطبيق القانون وتكريس الوعي به على جميع المستويات، ناهيك بدور مؤسسات المجتمع المدني وبخاصة التي تهتم بحقوق المرأة والثقافة القانونية.