الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، رن الهاتف وكان صوتها يرتجف خوفاً ” أحتاج إلى مكان أبيت فيه الليلة، أين أذهب في هذا الليل”. “ولماذا أنتِ خارج البيت في هذا الوقت؟” تسألها الناشطة في إحدى الجمعيات النسائية، فتجيب: “لأني لم أعد أحتمل ما يحصل لي”، هكذا عبرت عبير البالغة من العمر 32 سنة بصوت مليئ بالحزن والمرارة والغضب.
” هل من المعقول أن لا أستطيع أن أنام باطمئنان في بيت أهلي؟ هل من المعقول أن أهرب من شخص كنت أراه كل شيء بالنسبة لي؟ لم أتصور يوماً أنه يجب أن أحمي نفسي من أبي”، تضيف وهي باكية.
تتذكر عبير وهي مطلقة وأم لطفل تعيش في كركوك، كيف بدأت محاولات والدها التحرش بها منذ أن كان عمرها 12 سنة تقريبا. انطلق الأمر بملامسة بعض أعضاء جسدها ليتطور بعد ذلك إلى فتحه باب الحمام عليها أثناء استحمامها.
ليست عبير حالة فردية وإنما هي من ضمن العديد من النساء اللواتي يتعرضن إلى التحرش والإعتداء من قبل ذوي القربى في كركوك ويُجبرن على الصمت، مما يتسبب لهن في أضرار جسدية ونفسية، في ظل ضعف تطبيق القانون على المعتدين وعدم وجود ملاجئ لإيواء الضحايا.
“أخي طلب مني الزواج”
تعرضت ل.م البالغة من العمر 17 سنة إلى الاغتصاب من قبل أخيها الكبير، حيث تقول: ” كنت صغيرة ولم أكن أعرف ماذا تعني المعاشرة الجسدية وكان أخي يطلب مني أن أوافق على طلباته من غير أن أخبر أحدا عن الموضوع”، ثم تُتابع والغصة تعتري صوتها: “لقد طلب مني الزواج وأخبرني أنه سيعطيني المال في حال موافقتي على ذلك. كنت مترددة في إخبار عائلتي، ثم قررت أن أخبر أمي ولكنها لم تصدقني في بداية الأمر، وعدلت عن فكرة إخبار والدي الذي يتميز بعصبيته كما أنه يدافع دائما عن مواقف أخي. بعدها أصبحت أنام مع والدتي في غرفتها لأني أخاف المبيت في غرفتي لوحدي”. هذه التجربة المؤلمة خلّفت لدى ل.م انطباعا سيئا عن الرجال. ” أصبحت أكره الرجال كثيراً ولا أفكر بالزواج ابداً”.
حسب العرف الديني والمجتمعي، يعتبر زنا المحارم هو أي نشاط جنسي يكون بين شخصين من نفس العائلة تربطهما صلة عائلية قريبة تمنع العلاقة بينهما، كما أنه يُعدّ أحد أنواع العنف الذي تتعرض له النساء.
من وجهة النظر الدينية، يُجرّم الدين الإسلامي الزنا بشكل عام وخاصة سفاح القربى، حيث يقول ابن الحجر الهيتمي في كتابه الزواجر: “وأعظم الزنا على الإطلاق هو الزنا بالمحارم”.
تعتبر المرشدة التربوية والناشطة المدنية، شكوفه محمد أن هناك عدة دوافع وراء ارتكاب زنا المحارم أولها “العامل الإجتماعي الذي يدخل فيه عنصر التربية داخل الأسرة والمدرسة والتي تكون غير كافية لأن تنتج جيلا واعيا بالأمور الحياتية المجتمعية، وأخص بذلك العلاقات بين الجنسين. ثم تأتي العوامل النفسية والبيولوجية التي تلعب دوراً اساسياً في كسر حاجز التحريم الجنسي، فينفلت هذا النشاط ويتجه في اتجاهات غير مقبولة دينياً ومجتمعياً وثقافياً”. وتضيف “إن الشخص الذي يمارس زنا المحارم يعاني عادة من اضطراب نفسي منذ الصغر لكن لم تتم معالجته، فينعكس ذلك على أفراد أسرته. وهنا تغيب الثقافة الأسرية حول هذا الموضوع، كما تغيب أيضا الرقابة الاسرية على تصرفات الأبناء في البيت. وهذه مسؤولية تقع على عاتق الأم اولاً كونها هي المتواجدة في البيت ومن ثم الأب، كما أنه من الضروري توفير مساحة آمنة داخل العائلة خصوصا بين الأم وابنتها حتى تستطيع مصارحتها إذا ما تعرضت لإعتداء من أي نوع”.
من جهتها تقول الباحثة الاجتماعية، شوخان عمر محمد من جمعية الأمل العراقية وهي منظمة غير حكومية تعنى بالإرشاد الأسري تأسست سنة 1992، أن جمعيتها تستقبل بشكل مستمر حالات لزنا المحارم يكون فيها المعتدي هو الأب أو الأخ أو العم أو الخال. وتضيف “من أصعب الحالات التي جاءتنا خلال سنتي 2020-2021 حالة لطفلة صغيرة في الصف الرابع الابتدائي اعتدى عليها والدها من خلال وضعه حبوبا منومة في عصيرها. وعندما استيقظت في الصباح الباكر شاهدت فراشها مليئا بالدم ووالدها بجانبها يتحسس جسدها البريء”.
تروي الباحثة أيضا قصة طفلة عمرها 10 سنوات تقريباً، تعرّضت للإغتصاب من قبل العم، حيث كان يمارس الجنس معها من الخلف حتى لا تفقد البنت بكارتها، وتكرّر ذلك عشرات المرات إلى أن ذهبت وأخبرت والدتها عن الموضوع، لكن الأم لم تفعل شيئا غير السكوت، خوفاً من الأب والعائلة والفضيحة.
كذلك سجلت جمعية الأمل العراقية خمس حالات سنة 2021 كلهن لنساء مطلقات، اثنتان منهما تم الاعتداء عليهما من قبل العم حين كان يزورهما في البيت وكان يحاول أن يختلي بكل واحدة منهما مستغلا غياب الأب. وحالة لمطلقة تم الإعتداء عليها من قبل الأخ، الذي كان يتعاطى الخمر. أما المطلقتين الأخريين، فقد تعرضتا للإعتداء من قبل الأب، إحداهما كان والدها يضع لها حبوبا منومة في كوب العصير، لتتفاجئ صباحا بوجود جسده بجنبها، وقد جاءت إلى الجمعية لطلب المساعدة ولكن عندما طُلب منها تقديم شكوى ضده لم توافق خوفاً منه. أما الحالة الثانية فقد اعتدى عليها أبوها حينما طرد زوجته من البيت واختلى بها مجبرا إياها على ممارسة الجنس معه بشكل دائم. كانت البنت خائفة ولا تعرف ماذا تفعل غير الاستسلام والرضوخ لرغباته. “الكثير من الضحايا يُفضّلن الصمت على البوح بما تعرضن له خوفاً من عدم تصديق الأهل لهن ونظرة المجتمع”، تؤكد شوخان محمد.
آثار نفسية عميقة والحاجة إلى الدعم
تنتج عن زنا المحارم آثار نفسية عميقة، حيث تُبيّن الناشطة والمحللة النفسية، سوسن محمد بأن “العديد من النساء اللواتي تتعرضن لزنا المحارم تعشن أوضاعا نفسية صعبة وقد تفكرن في الإنتحار، خاصة إذا شعرن بعدم وجود أحد لمساندتهن أو الدفاع عنهن. كذلك قد يدفعهن الإحساس بعدم الأمان إلى سلوك طريق الدعارة أو العمل في الملاهي باعتبارها تمثل مكانا آمنا بالنسبة إليهن لأنه يبعدهن عن المعتدين من أفراد العائلة”. وتضيف “هناك أيضا أثر سلبي على المستوى الاجتماعي، إذ أن شرخا كبيرا يحدث داخل الأسرة، حيث تنعدم الثقة تماماً بين أفرادها ولا يكون هناك أمان كاف بالنسبة للضحية ونحن مجتمع لا يرحم المرأة بأي شكل من الأشكال”. وتختم قولها بأنه حسب الدراسات التي قامت بها، “فإن المعتدي يكون عادة إما مخمورا أو متعاطيا للمخدرات، أو لديه شذوذ جنسي منذ الصغر”.
تحتاج ضحايا زنا المحارم إلى الدعم النفسي وهو ما توفره لهن بعض منظمات المجتمع المدني، فمثلا يستقبل مركز المساحة الآمنة للنساء والفتيات في كركوك ضحايا زنا المحارم. وهو مركز تأسس في 2018 بالشراكة مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة وبدعم من الحكومة اليابانية لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي والقانوني والاقتصادي لضحايا العنف.
تقول حلا عبد، مديرة هذا المركز ” هو مكان مخصص للنساء اللواتي يردن التكلم عن مشاكلهن بشكل سري، ونحن بدورنا نقدم لهن النصيحة والاستشارة النفسية أو القانونية حسب الحالة، ولكننا لا نستطيع إيواء النساء المعنفات لأننا لا نملك الصلاحية اللازمة لذلك، ولا يمكن فتح دار إيواء إلا بغطاء قانوني”. وتضيف “قدمنا مقترحات كثيرة للجهات الرسمية حول ضرورة توفير أماكن إيواء للنساء المعنفات لكن للأسف لم تكن هناك أية استجابة من جانبها.”
ويعمل المركز على تقديم الدعم النفسي للنساء من خلال إحالتهن إلى مختصات في وحدات نفسية تابعة للمراكز الصحية حسب المنطقة أو إلى طبيب نفساني مختص، كما يوفّر الدعم القانوني لهن من خلال استشارة قانونية أو رفع قضية ضد المعتدي، بالإضافة إلى توفير فرص عمل لهن من خلال تأهليهن اقتصادياً عير تدريبهن وتوفير فرص عمل لهن.
لا تمتلك كل المنظمات التي تساعد المعنفات أخصائيين نفسيين. ” لا يوجد لدينا أطباء مختصين لكن لدينا باحثات يتم تدربيهن على الصحة النفسية وكيفية التعامل مع المعنفات” تبين الباحثة الاجتماعية، شوخان محمد من جمعية الأمل العراقية.
ضعف تطبيق القانون
رغم وجود قانون يعاقب على زنا المحارم، إلا أنه لا يطبق بالشكل المطلوب نظرا لغياب الشكوى من قبل المعنفات.يتضمن قانون العقوبات العراقي 111 لسنة 1969 نصاً يُعاقب على جريمة زنا المحارم وهو نص مادة 385 : ” يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على عشر سنين أو بالحبس من واقع أحد محارمه أو لاط بها برضاها وكانت قد أتمت الثامنة عشرة من عمرها. ويعتبر ظرفا مشددا اذا حملت المجنى عليها أو ازيلت بكارتها أو اصيبت بمرض تناسلي نتيجة للفعل أو كان الجاني من المتولين تربية المجني عليها أو ملاحظتها أو ممن له سلطة عليها. ولا يجوز تحريك الدعوى عن هذا الفعل أو اتخاذ أي اجراء فيه إلا بناء على شكوى من المجني عليها أو من أصولها أو فروعها أو إخوتها أو أخواتها.” كما يأتي أيضا في المادة 393 أنه “يعاقب بالحبس المؤبد أو المؤقت كل من واقع انثى بغير رضاها أو لاط بذكر أو أنثى بغير رضاه أو رضاها” ويعتبر ظرفا مشددا إذا كانت الضحية قاصرا أو تم ذلك من أقارب المجني عليها إلى الدرجة الثالثة.
ولكن المشكلة في تطبيق القانون هي أن الضحايا يرفضن تقديم شكوى بالمعتدين. في هذا الصدد، تفيد المحامية، إيمان عبد الرحمن، رئيسة معهد المرأة القيادية المعني بقضايا المرأة ” أن موضوع زنا المحارم يعد من المواضيع الحساسة والسرية جداً لأن عقوبتها تصل إلى الإعدام أو المؤبد بالنسبة للجاني، بالتالي، حين تأتينا ضحية تعرضت للإعتداء ونطلب موافقتها للإبلاغ، ترفض مباشرة. ونحن ملزمات باحترام قرار الضحايا.” وتضيف “في المقابل، نقدم لها الدعم النفسي ونعطيها استشارة قانونية دون التدخل في الموضوع، لأن إحدى محامياتنا تعرضت إلى التهديد بالقتل، لهذا أصبحنا نقدم الدعم وبشكل سري جدا”.
لكن قد تحدث استثناءات وتصر الضحية على متابعة الشكوى لتتم معاقبة المعتدي. تروي الباحثة الاجتماعية شوخان محمد عن حالة صادفتها من خارج محافظة كركوك تخص فتاة بعمر 8 سنوات تعرضت للإعتداء الجنسي من قبل أخيها وعندما أخبرت والدتها بالأمر قامت بتهدديها لإجبارها على الصمت ولم توبخ ابنها على فعلته، وهذا ما أثار خوف البنت فهربت من البيت بعد بلوغها (16) سنة، وجاءت إلى جمعية الأمل العراقية. “رفعت الفتاة قضية ضد أخيها بسبب التحرش، إلا أن العائلة طلبت منها التنازل وحل الموضوع عائلياً لكنها لم تسقط الدعوى، وتم سجن هذا الأخير بعد أن أثبتت الفحوصات أنه قام فعلا بالاعتداء عليها، وهي حاليا موجودة في إحدى المآوي التابعة لإقليم كردستان. وترفض العودة إلى أهلها خوفا من أن يتم قتلها.
مقترحات للحد من الظاهرة
لمعالجة مشكلة زنا المحارم، يعتبر أحد المختصين في العلاج النفسي (الذي رفض إعطاء اسمه نظرا لحساسية الموضوع) أن كلا الضحية والمعتدي يحتاجان للمعالجة النفسية، “فالمعتدي قد يكون هو أيضاً تعرض لزنا المحارم في الماضي من أحد أفراد عائلته أو لاعتداء جنسي أو تحرش في المدرسة ولم يتكلم عن ذلك، فيعيد إنتاج نفس التجربة على شخص آخر من عائلته عند بلوغه. كذلك تحتاج الضحية إلى معالجة ومتابعة لحالتها النفسية وإعادة تأهيل كي تستأنف حياتها من جديد بشكل عادي”.
من جهتهم، يؤكد الخبراء الاجتماعيون وناشطي المجتمع المدني الذين تحدثنا معهم على أن مقاومة هذه الظاهرة تمر عبر مجموعة من النقاط الأساسية وأهمها ضرورة تثقيف المجتمع وتوعيته وبيان خطورة زنا المحارم وتبعاته على الفرد والتماسك الإجتماعي والأسري، ورفع مستوى الوعي الديني، ومراقبة الأسرة لسلوك الأطفال والبالغين، إضافة إلى تفعيل دور وسائل الإعلام من خلال طرح هذا الموضوع للنقاش المفتوح والتوعية بمخاطره، وضرورة إنشاء جهة رسمية للتعامل مع مثل هذه الحالات من العنف المسلط على النساء.
من جهتها تعتبر عبير أن أحد أهم الحلول لتشفى الضحية مما تعرضت له هو الحديث عن الإعتداء: “نصيحتي لكل بنت: تكلمي وقدمي شكواكِ ليعرف الجميع ما حصل لك. صوتنا مهم ويجب أن يُسمع، علينا أن نفصح عما تعرضنا له، لأننا بذلك سنخلق وعيا داخل المجتمع وستصل أصواتنا إلى الرأي العام، مما من شأنه أن يمثل ضغطا على السلطات للتحرك ومعاقبة المعتدين وإيجاد حلول”.
المصدر:مكانتي