امرأة قروية تجلس خلف ماكينة الخياطة، هزيلة الجسد يفوق عمرها الـ 65 عاما، لا تفرق بين عمرها وعمر الماكينة كلاهما من الزمن الماضي، تقضي اوقاتها بين المقص والخيط، باتت تعرف الاقمشة اكثر من التاجر، دقيقة في (الفصال) وكأن يدها المقياس، عرفت في الحي الشعبي بمهارتها في الخياطة، ومن الصعب التفريق ان كان الفستان جاهزا من السوق او من عند ام صالح، والاجمل انها تضع بصمتها في التطريز على الملابس ونقش الاسماء، تواكب العصر بأناملها القروية، فيخرج الفستان من عندها وكأنه خرج من دار الازياء، وبأسعار زهيدة، هذه قصة السيدة “ام صالح” التي امست تفتقد الزبائن في هذه السنوات الاخيرة، وتشتكي من عدم قبول النساء على الخياطة، واصبحوا يفضلنَ الجاهز، تعانق الماكينة وتذرف دموعها خوفا عليها من النسيان او الموت، فأصبحت ادواتها صامتة لا صوت لها، في الوقت التي كانت تضج في الدار.
الخياطة “ندى” تفتقد زبائنها، بعدما كانوا يتوافدون الى دارها، وينتظرون الدور في الخياطة، من الفساتين وبدلات العرس وملابس المدرسة، في وقت الذي كان فيه الاستيراد والتصدير قليلا، واسعار البضائع غالية جدا، ومن يشتري من الملابس الجاهزة يعتبر من العوائل المتمكنة، وبعد دخول الاستيراد تراجع الاقبال على الخياطة، وتضيف: مما جعلنا نعمل على التقصير او التعديل فقط، وكثيرا ما اشعر بالخوف من ان يأتي اليوم الذي اضطر فيه الى اغلاق الماكينة.
(ابو امير) صاحب محل خياطة رجالي في سوق قديم، يقول: غزت اسواقنا البضاعة الصينية والتركية والسورية، والناس تستسهل الامر، فبين اختيار نوع القماش والموديل، قميص ودشداشة، يذهب و يشتري القميص الجاهز بأرخص الاسعار واقل زمن، اعرف جيدا ان هذه المهنة اصبحت قديمة، ولا يقبل عليها الناس، لكنني مازلت انتظر من يأتي ويطلب ان يخيط (قاط العرس) كما كانوا الشباب في السابق، في هذا السوق الكل يعرف انني ورثت هذه المهنة عن ابي، دمعة تلمع في عينه، ولا اود ان ارحل من هذه الدنيا وقد غيرت مهنة ابي.
فئة من السيدات يرغبن في التسوق وشراء فساتين المناسبات من الأسواق، أو عبر خدمة التوصيل التي اصبحت متوفرة في كل مكان، من دون تعب في اختيار القماش والخيط وطريقة الفصال، وهل يناسب او لا، تجد الفستان المناسب والسعر المناسب، لا يعرفون ان الكثير من مصممي الأزياء المشهورين كانوا يعملون في محلات صغيرة، وقبل ذلك انها مهنة نبي الله ادريس (عليه السلام) فكان خياطا في عصره، والنبي ابراهيم (عليه السلام) كان بزازا (تاجر اقمشة).
والفئة الاخرى تقول ان مهنة الخياطة مقتصرة على ربة المنزل التي كانت تخيط الملابس لجميع أفراد أسرتها، فكانت الخياطة حكرا على الفقراء وساعدتهم في الحصول على ملابس أفضل وأقل كلفة.
شاركتنا معلمة الفنية (سوسن شاكر) برأيها لبشرى حياة: تاريخ الخياطة مازال حاضرا في ذاكرة المرأة العراقية، وان اردت معرفة المرأة العراقية العاملة تعرفها من يديها واناقتها، في السنوات السابقة كانت الخياطة تدرس في منهاج درس الفنية، كوحدة قياس، وتعلم مهارات، وهناك معاهد كانت تدعم المرأة وتأخذ بيدها نحو الصناعة الوطنية، والاجيال الماضية تعرفها جيدا، من خلال “اورزدي”، اسواق مركزية انتشرت في السبعينات، فيعرض فيها البضائع الوطنية، من اجمل ما كان يعرض هي الملابس التي اشتهرت بجودة القماش والخياطة فكانت تبقى من جيل الى اخر، كما هو محفوظ عند امهاتنا من ملابس الابناء والمفروشات، بقيت حاضرة لحسن نوعها وجمالها، ولا يقتصر الاروزدي على الصناعة الوطنية فقط بل هناك جانب لعرض الملابس المستوردة من الدول المعروفة بأناقتها (لندن وباريس)، ومن المؤسف ان نرى جيلا لا يهتم بهذه المهنة، فهناك نساء بذلت عمرها وصحتها من اجل هذه الماكينة، والمعروف أن المرأة التي تلجأ إلى تفصيل ثيابها هي امرأة استثنائية، يهمها مظهرها كثيرا، وترغب في التميز وابتكار ما هو جديد وغير مطروح في السوق، بلمساتها الناعمة.
وتعرفين يا عزيزتي ما هو متوفر في الاسواق قد لا يناسب الجميع من حيث الحجم والنوعية، فأنا كمحجبة، لا أجد من الثياب ما يناسبني في الاعراس او المناسبات، اغلبها غير محتشمة ولا تناسب عمري، نلاحظ ان الخياطة عنصر مهم في حياة المرأة العراقية من خياطة العباءة التي مازالت تخيطها المرأة العراقية، وبأجور مناسبة لا تتجاوز (50) الف، تعين نفسها واسرتها في طلب الحلال كما جاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أي الأعمال أفضل؟ قال(صلى الله عليه واله وسلم): أن تدخل على أخيك المؤمن سروراً، أو تقضي له ديناً، أو تطعمه خبزاً.
م/http://bushra.annabaa.org