المنار نيوز/مجلة عراقيات
بدت ملامح سليمة حميد التي لم تتجاوز الرابعة عشر عاما من عمرها شاحبة كأنها امرأة شهدت جميع مآسي الحياة. تحمل على ظهرها كمية من الطابوق بعد ان أنهكها التعب وتقول بنفس مقطوع إني ” احلم بشراء عربة يجرها حمار لتصبح عملية التحميل سهلة علي و على والدتي”.
حميد لم تحصل على اي حق من حقوقها في الدراسة فهي تساعد والدتها على كسب الرزق دون ان تستطيع ان تحقق أبسط احلامها المتمثلة بشراء لعبة لا تقدر والدتها على دفع تكاليفها.
حكاية هذه الفتاة هي واحدة من حكايات لعشرات الفتيات اللواتي يتزاحمن على معامل الطابوق في مدينة “النهروان” (جنوب شرقي بغداد) لتوفير لقمة العيش بجانب ” كورة ” النار وأكوام الطابوق المتناثرة هنا وهناك تحت غمامة سوداء دفنت براءة طفولتهن وحرمتهن من لحظات الصبا.
الزوجة تعمل عوضا عن الزوج !
وقد تختلف ظروف التحاق الفتيات بالعمل في معامل الطابوق إلا أن الغرض واحد وهو تحصيل الرزق. سمية عبد، فتاة في 18 من عمرها، تزوجت برجل مسن يكبرها بأكثر من ثلاثين عاما اقنعها في بداية اقترانها به بالسكن مع أبنائه داخل أحد هذه المعامل، ليجبرها بعد ذلك على مساعدته في تحميل الطابوق على الرغم من أنها حامل. أنا ” مجبرة على العمل لأن حالة زوجي الصحية سيئة ولا يستطيع العمل”. عبد تعاني كثيرا من حياتها الزوجية ليس لأنها تعمل وفي احشائها جنين، بل لان العادات والتقاليد العشائرية تفرض على المرأة المتزوجة العمل بينما يستلم الزوج اجورها الاسبوعية او الشهرية بدلا منها.
ولا يتجاوز اجر الفتيات اللواتي يعملن 10 ساعات يوميا 45 الف دينارا عراقيا في الاسبوع. وهن ملزمات بتحميل 1000 طابوقة اسبوعيا.
إلا أنه برغم العمل الشاق وتفاصيل الحياة المتعبة، لا تزال بعض الفتيات تحلم بالحصول على ادوات التجميل وملابس انيقة. بحماس تقول زهراء عمار وهي فتاة في الـ 17 من عمرها إنني ” ادخر من اجوري مبلغا بسيطا لكي اشتري بعضا من الثياب الجديدة “. ولكن حلم هذه الفتاة يتلاشى دائما إذا ما استولى والدها على اجورها الاسبوعية كافة.
خدمات مفقودة
في ركن من المعمل تتوزع الطوابير المزدحمة بالنساء والفتيات اللواتي يحملن أواني وقدور من “البلاستيك” لانتظار دورهن في الحصول على المياه من الحوض، بينما تجلس في مقدمة الطابور ” ام ياس ” وهي منشغلة بغسيل ثياب ابنائها الذين يعملون طوال اليوم و تفسر قائلة: “إن صاحب المعمل يجهزنا بأحواض مياه كبيرة للشرب ولاستعمالات أخرى نحن بحاجة إليها”.
هذه الاحواض يلجأ إلى توفيرها صاحب المعمل لعدم عدم وجود مياه صالحة للشرب. بينما على بعد مسافة ليست بالقليلة من هذه الاحواض، توجد مجموعة من الغرف المظلمة التي تعلوها اكياس ” نايلون ” كبيرة ومجموعة أخرى من السعف وضعتُ كبديل عن سقوفها، في حين تتصل أرضية هذه الغرف بأرضية المصنع الترابية مباشرة. عند احد ابواب هذه الغرف، كانت تقف هنية علي وهي امرأة اربعينية وتقول إننا ” نسكن هنا لقاء اجور أقل من التي يحصل عليها الذين يسكنون خارج المعمل، لذا يعمل جميع أفراد العائلة الواحدة منذ اللحظة التي يتعلم فيها الطفل السير ليبدأ بتحميل ما يستطيع من الطابوق”.
لا تقتصر الظروف المعيشية الصعبة على هذا الحد، بل تتعداه الى عدم حصول العمال على اية من الجهات المعنية كراتب الأرامل او التقاعد، حيث تبين سميرة جاسم وهي امرأة في العقد الخامس ان زوجها متوفي وليست لديها القدرة على توفير اجور النقل، حتى تستطيع اكمال اوراقها الثبوتية لغرض الحصول على راتب الارامل. أما هناء فلاح وهي ايضا عاملة، فتشكو من عدم تسجيل العمال بشكل رسمي، مما يمنعهم من الحصول على رواتب تقاعدية او حتى ضمانات صحية في حال اصيب احدهم بحادث اثناء العمل.
غياب الأجهزة الرقابية
“يلجأ بعض أصحاب معامل الطابوق إلى استخدام صغار السن لغرض تقديم أجور زهيدة، هذا يمكنهم من تقليل تكاليف الإنتاج والمحافظة على الأسعار التنافسية وضمان الحصول على اكبر عائد ممكن، بالاضافة لذلك فإنهم يتجنبون دفع الضمانات الصحية والاجتماعية فضلا عن الخضوع الى قانون التقاعد وتسجيل العاملين في سجلات أصولية لتأمين حياتهم في نهاية الخدمة” هذا ما أشار إليه الخبير الاقتصادي محمد السعدي، مضيفا أن المخالفات القانونية يقع ثقلها على أصحاب المعامل، كما وتقع المسؤولية الاجتماعية على الذين يقومون باستغلال هذه الشريحة، والذين لا يلتزمون بمسؤولية الحفاظ على أطفالهم سواء كانوا فتيات أو صبية.
السعدي يرى أن هناك حاجة إلى اجهزة رقابية لتنظيم العمل وإخضاع مثل هذه المعامل للقوانين المعمول بها ، كما يجب احترام حقوق الإنسان وحقوق الطفل.
وعن آثار هذه الظروف الصعبة في العمل على العاملين، تبين الخبيرة في علم النفس الاجتماعي، سناء جابر أن هناك خطر الإصابة بالعديد من الأمراض النفسية والاجتماعية للأطفال العاملين في معامل الطابوق أو في الأماكن التي تضم هكذا أجواء قاسية. ” هؤلاء يعيشون في بيئة غير صحية اجتماعيا وبالتالي فإنهم يكونون معرضين للاصابة بالأمراض النفسية التي تؤثر على التركيبة الشخصية لهم وتصنع منهم المجرم والمدمن واللص”، لافتة النظر الى “أنهم يشعرون بدونية تعامل الآخرين معهم وبفقدان حقوقهم، خاصة حق الدراسة واللعب”.
قوانين ولكن …
ووفق لقانون العمل (71 لسنة 1978)، تخالف سياسة أصحاب معامل الطابوق المادة (81) التي تنص على انه ﻻ ﻳﺠﻮز ﺗﺸﻐﻴﻞ اﻟﻨﺴﺎء ﻓﻲ اﻻﻋﻤاﻞ اﻟﺸﺎﻗﺔ او اﻟﻀﺎرة ﺑﺎﻟﺼﺤﺔ، كما أن اﻟﻤﺎدة (82) تنص أنه ﻻ يجوز ﺗﺸﻐﻴﻞ اﻟﻨﺴﺎء اﻟﺤﻮاﻣﻞ بأعمال إضافية، مما قد ﺗﺆدي إلى اﻻﺿﺮار ﺑﺼﺤﺔ اﻟﻤرأة أو حملها. إلا أن هذه القوانين لا تنفذ في البلاد رغم ان الكثير من المنظمات غير الحكومية قد أقامت العديد من البرامج المناهضة لهذه الظاهرة، مطالبة بوضع قوانين أخرى تعنى بقضايا العمالة والتسول، حسبما تؤكده مديرة المعهد العراقي، الناشطة سهيلة الاسدي، مشيرة إلى أن ” جميع المنظمات الدولية ومنها المحلية ترفض عمل الأطفال تحت سن الثامنة عشرة، والنساء، أيضا لاسيما في مثل هذه المهن التي تعد خشنة وقاسية وتفتقر للسلامة الصحية باعتبار أن المرأة اقل قدرة جسمانية من الرجل”.
في ظل هذا الوضع، تضل سليمة حميد وغيرها من الفتيات يكدحن طوال عشر ساعات يوميا للحصول على دنانير ضئيلة من اجل إعالة عزيز والحصول على بعض الطعام.-
See more at: http://www.iraqiyat.org/full-detail.aspx?id=2414&LinkID=18#1