كانت “ن. ع” تنتظر يوما بعد آخر حتى تكمل دراستها وتلتحق بإحدى دورات الضباط لتدخل بعدها القطاع الأمني، فطالما شغل بالها ذلك الزي العسكري والكاريزما التي كانت تحلم بها وهي تحمل سلاحها وتؤدي واجبها في تطبيق القانون وحماية المجتمع.
ولكن تلك “الأحلام الوردية” كما وصفتها الضابط برتبة ملازم أول “ن. ع” تبددت بمجرد أن وضعت رتبتها على كتفها ومارست وظيفتها التي جعلتها لاحقا في “ورطة” وفي داخل قلبها “غصة” لم تفارقها حتى الآن.
تقول الضابطة ن. ع “في بداية عملي كنت متحمسة جدا ولكن سرعان ما فقدت تلك الرغبة وتنازلت عن طموح كان الأسمى بالنسبة لي، فكثرة المضايقات والضغوط والتهميش وعدم التقدير جعلتي أفكر بأني في المكان غير المناسب، ولأن خيار الانسحاب من العمل ليس سهلا فقد أصبحت في ورطة فعلية، فالعمل وظيفة مهمة بالنسبة لي لكنه يخلو من التقدير والإنصاف، رغم أن رتبتي العسكرية أعلى وتفرض على المنتسب إبداء التحية إلا أنه لم ينادني بكلمة سيّدتي على الإطلاق”.
مضايقات وعدم إنصاف
وتكمل الضابطة “الزملاء لا يعرفون ماذا تعني التحية العسكرية بالنسبة لي، ولو خيّروني بينها وبين البدل المالي سأختار الرتبة مهما بلغت قيمة البدل المالي، فالتحية (واجبة) للمرسوم الجمهوري بغض النظر عن حامله”، مشددة على أن “الأمر على أرض الواقع يختلف تماما عما يظهر في الإعلام، وربما منشور الضابطة لارا فاضل التي رفضت فيه تقبل البدل المالي عوضا عن أداء التحية العسكرية وموجة السخرية والتنمر التي تعرضت لها، خير دليل على ذلك”.
وتضيف أنها تشعر بعدم الإنصاف وكذلك أغلب زميلاتها “لعدم حصولنا على الاستحقاق الوظيفي والمراوحة في مكاننا، بينما يتسابق الرجال على المناصب، كما نخشى التعبير عن آرائنا أو الاعتراض، فلا أحد يتكهن بأساليب الانتقام الملتوية التي ستطلق تجاهنا لمجرد إبداء الملاحظات”.
وأشارت إلى أن إعطاء العوض المالي بدلاً عن التحية العسكرية للعنصر النسوي خير دليل على كلامها، فعندما رفضناها علنا تعرضنا لمشاكل كثيرة، بالإضافة إلى موجة السخرية والتنمر من بعض أفراد المجتمع.
وتستمر الضابط “ن. ع” في حديثها: ربما لا تساوي معاناة بعض الضابطات شيئا أمام ما تعانيه بعض المنتسبات خاصة في محافظات الوسط والجنوب حيث التمييز الطبقي بين الضابطات وبقية المنتسبات، وعدم الإنصاف في منح الإجازات وكتب الشكر والتقدير والإيفادات والمناصب، رغم ما يفرض عليهن من مهام إضافية، كذلك الحرمان من الاشتراك في دورات الضباط، إذ إن أغلب الأسر لا تسمح لنسائهن بالسفر إلى بغداد أو البصرة للاشتراك في دورة الضباط كونها تتطلب البقاء خارج المنزل لأيام طويلة قد تصل إلى سنة تتخللها فترة الإجازة.
قصة مغايرة
وفي المقابل تؤكد الملازمة أولى طيبة علي الساعدي أن زملاءها في العمل وكل من عملت معهم يبادلونها هي وزميلاتها الاحترام والالتزام والتقدير.
وعن حقيقة إسناد بعض المهام للرجال دون النساء، بررت قائلة إن “القدرة البدنية والتكوينية” للرجل تختلف عن المرأة، وهذا يفرض التمييز في المهام أحيانا، مشيرة إلى أن موضوع العوض المالي كبديل عن التحية العسكرية للنساء تحدده القيادة العليا، ومهما كانت يجب أن تنفذ وفقا لسياق المؤسسة العسكرية.
وأضافت الساعدي أن “التحية العسكرية للنساء أصبحت بعد عام 2003 أمرا واجبا بقوة القانون ويراعى فيها القدم العسكري في الرتبة، ولكن أحيانا لا يتم التقيد بأدائها بسبب تداخل العمل والاحتكاك بين الضابط والمنتسب، لذلك لا يوجد إصرار على أداء التحية، أما في حال التعمد وعدم أدائها من قبل المنتسب فإنه سيتعرض للمحاسبة القانونية”.
ويعتبر عمل النساء في قطاع الأمن ليس وليد اليوم، إذ افتتحت السلطات العراقية عام 1968 دورات تأهيل النساء للانخراط في هذا المجال، لكن التجربة لم تكن ناجحة بسبب عوامل عدة. وفي ظل حكومة حزب البعث حتى عام 2003، زجت النساء في قطاع شرطة المرور فقط، ثم استأنف إدماجهن في هذا القطاع بعد ذلك العام وتوسع شيئا فشيئا إلى أن أصبحت النساء يشكلن جزءا كبيرا من المؤسسة الأمنية في الوقت الحالي.
وكحال أي مهنة تهيمن عليها العقلية الذكورية، فإن صعوبات وتحديات كبيرة تواجه المرأة بمجرد دخولها خاصة عندما تسيطر الصورة النمطية للمرأة على عقلية الفرد لتبدأ رحلة المعاناة ابتداءً من الأسرة والشارع وصولا إلى مقر العمل.
وحول المناصب الأمنية فإنها عادة ما تمنح للأكفأ وفق رؤية أصحاب القرار داخل المؤسسة الأمنية، ويراعي فيها التدرج العسكري من ناحية الخدمة والرتبة وفارق الخبرة في إدارة المناصب وغير ذلك، بحسب الساعدي، إلا أن الضابطة “ن.ع” ترى العكس وتؤكد أنها تحت سطوة “الرجال” و”المزاج” و “المحاصصة الحزبية”، وعادة ما تجد طريقها للرجال دون النساء، وغالبا ما يكتفي أصحاب القرار بزج النساء في مهام القضايا الأسرية للعب دور الوسيط في مسائل الصلح والتراضي والتواصل مع المؤسسات الاجتماعية، بالإضافة إلى وظائف إدارية ومهام توعوية، في حين تشكل مهمة “التفتيش” في الدوائر الحكومية نسبة كبيرة وكأنهن التحقن من أجل هذا العمل فقط.
صورة نمطية
تقول الباحثة في قضايا المجتمع فريال الكعبي إن نسبة كبيرة من أفراد المجتمع ما زالت ترفض وجود المرأة في القطاع الأمني، حتى إن بعض الضباط الرجال رفضوا ذلك لأنهم يعتقدون أنها لا تستطيع القيام بالمهام الأمنية ولا يمكنها التحكم في عواطفها وأنها خلقت للقيام بالأعمال المنزلية فقط.
والبعض يعتبر وجود المرأة في قطاع الأمن يجلب “العار” لأسرتها، وهذا ما حصل مع إحدى المنتسبات التي تبرأ منها ذووها رغم أنها التحقت بموافقة زوجها، كما يصعب على البعض منهن الخروج أمام الناس بالزي العسكري، ولذلك تفضل أغلبهن العمل مفتشات في الدوائر الحكومية، وبعضهن تحولن للعمل في القطاع المدني وأخريات أجبرن على إخفاء طبيعة عملهن حرصا على سمعتهن وحياتهن، بحسب الكعبي.
وتستطرد الكعبي أن بعض الرجال من العناصر الأمنية يترفعون عن أداء التحية للضابطات ولو كنَّ أعلى رتبة منهم حتى لو كلفهم الأمر الخضوع للتحقيق والمحاسبة على اعتبار أن عدم أداء التحية يدخل ضمن جرائم عدم الاحترام والطاعة وفقا لقانون عقوبات قوى الأمن الداخلي رقم 14 لسنة 2008.
غياب التوازن
ما زالت فجوة عدم المساواة بين الجنسين في المؤسسة الأمنية قائمة في ظل غياب آليات ممنهجة لردم الفجوة، فالمعلومات تشير إلى وجود أكثر من 750 ألف منتسب في وزارة الداخلية تشكل النساء فيه حوالي 10 آلاف منتسبة بمراتب عسكرية دنيا، وفقا للناشطة أمل كباشي.
وتشير كباشي إلى أن “عدد النساء الحاصلات على رتب عسكرية لا يتجاوز 250 امرأة”، وأن “أعلى رتبة منحت للمرأة هي رائد”، أما بقية المنتسبات فيعملن بوظائف مدنية وشكلية مع غياب المهام والمسؤوليات الواضحة، وكلما صعدنا إلى هرم القيادة نرى غيابا تاما للنساء.
واشرت الناشطات النسويات عدم ادماج النساء في المؤسسات الامنية ابرزها وزارة الدفاع وجهاز الامن الوطني ومستشارية الامن الوطني بسبب عدم تقبل وجود النساء في هذه القطاعات وعدم الثقة بمنحهن الادوار والمناصب مما قلل فرص ادماج النساء في بناء الامن والسلام وانعدام وجود كادر نسوي مستجيب للقضايا القائمة على النوع الاجتماعي .
قلة الوعي الجندري
وتعتقد كباشي ان السياسة الامنية تفتقر الى فهم كامل للنوع الاجتماعي وادماجه في سياساته رغم ان منظمات المجتمع المدني تعمل على رفع هذا المستوى الوعي لكن التحديات كثيرة ابرزها البيروقراطية في ادارة المؤسسة الامنية وسلسلة المراتب المعرقلة لتنفيذ البرامج والانشطة .
كما ترى كباشي ان برامج التدريب حول حقوق الانسان والنوع الاجتماعي التي تقدمها وزارة الداخلية وبقية مؤسساتها ضعيفة جدا و غير كافية لرفع الوعي لدى كوادرها رغم ان المؤسسة الامنية جزء من الفريق الوطني المعني بتطبيق الخطة الوطنية للقرار الاممي 1325 والسياسات المتعلقة بالنهوض بواقع المرأة وهي ايضا عضو في مجلس مناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي والبيان المشترك وجميع هذه الاليات تدعو الى اصلاح القطاع الامني الذي ما يزال بعيداً عن الاصلاح .
اصلاح وتوعية
توصي رئيسة تحالف المرأة الامن السلام “1325” سوزان عارف بضرورة توعية كوادر المؤسسة الامنية بالمساواة الجندرية وحقوق المواطنة الكاملة للنساء مع التركيز على التعليم و ضرورة ادماج مفهوم النوع الاجتماعي في كل السياسات والاجراءات في كل المؤسسات التي ماتزال ذكورية بحته لذا يجب العمل على جندرة السياسات ومفهوم النوع الاجتماعي وبناء القدرات ومساعدة المرأة في الحصول على حقوقها مع ضرورة مراعاة الظروف الاجتماعية للنساء وتسهيل اجراءات اشراكهن في دورات الترقية والا يقتصر على مناطق محددة دون غيرها.
من جانبها اوصت الكعبي بضرورة تكثيف برامج التوعية الاعلامية والمجتمعية بأهمية دور المرأة في القطاع الامني وإبراز جانب القوة والاهمية والنجاح الذي يتحقق بوجود المرأة في هذا القطاع المهم.
التزامات وطنية ودولية
و تلزم كباشي المؤسسة الامنية بتطبيق ما نص عليه الدستور من تكافؤ الفرص والمساواة وعدم التمييز بين المواطنين والعمل بما يتناسب مع التزامات العراق الدولية وتعهداته لاتفاقية سيداو وقرار مجلس الامن الدولي “1325”من خلال توفير برامج لبناء المهارات القيادية النسوية في قطاع الامن .
ودعت كباشي ايضا الى اهمية اصلاح القطاع الامني من منظور جندري يعزز مشاركة النساء مع التأكيد على ضرورة وضع مدونة سلوك مراعية للنوع الاجتماعي ومستجيبة لقضايا العنف القائم على اساس النوع الاجتماعي والعمل على وضع برامج عمل منهجية تضمن المساواة الكاملة بين الجنسين.
م/الجزيرة نت