بين أكوام النفايات، اجتمعت فصول العام على المواطنة، زهوة سريع، التي قدر عمرها بما يزيد عن الثمانين بفصل واحد، لأن فصول الصيف والشتاء “لم تعد تعني لها شيئاً”، بعد أن اكتفت من الدنيا بخيمة سكنتها لأكثر من أربعين سنة، بلا معيل، لتأكل ما تجنيه بعزة نفسها وكد يدها، من بيع النفايات والعلب الفارغة في أحد مواقع الطمر الصحي بمدينة الديوانية، لتضمن الحصول على ألف دينار يومياً، تؤمن احتياجاتها.
عزة نفس زهوة منعتها من قبول مساعدة أي شخص سمع بقصتها وجاء ليتأكد منها، حتى بعد أن فقدت بصرها منذ ثماني سنوات، لتكتفي بترقيع خيمتها البالية، مما يقع بين يديها من أكياس النفايات، بعد تدني أسعار بيع ما يستخرجه ساكنو مواقع الطمر الصحي في الأسواق.
وتروي سريع، قصتها في حديث إلى (المدى برس)، قائلة “جئت مع أسرتي قبل نحو خمسين سنة إلى هذه البقعة، وكان معنا أكثر من خمسين جملاً، فالترحال للبدو هوية أهم من تلك الورقة (الجنسية)، لكنها نفقت ما أن وصلت هذه البقعة، فما عاد لنا هوية أو سبب للترحال، فقررت نصب خيمتي هنا والبحث عما يؤمن لي قوت يومي فقط، إذ لست بحاجة لأكثر من ذلك”.
خيمة زهوة خلت من كل شيء، فالأرض الرطبة فراشها، وآنية بالية ليس لها لون أو شكل هندسي واضح، لكنها تشبه الى حد ما إبريق الشاي، تطبخ فيها ما تأكله، ووعاء حصلت عليه من أكوام النفايات، تتخذه موقداً لطبخها، عباءة مهترئة لا يميز لونها، وسقف الخيمة لم يبق منه إلا أكياس الرز والدقيق التي خيطتها بيدها ليكون لها سقف منزل خاو.
وتوضح سريع، أن “الله وهبني كل شيء ولست بحاجة لبني البشر، وخالقي ضمن لي لقمة عيشي، وهي كافية لسد رمقي، فلم الحاجة إلى الآخرين”، وتبيّن أن “أبناء أخي من أبي يسكنون إلى جواري في منازلهم، ويتواصلون معي يومياً، ويحاولون مساعدتي لكنني أرفض ذلك”، وتضيف “احتاج كل يوم إلى ألف دينار فقط، أحصل عليه من البحث وبيع العلب الفارغة، لكني أخشى حضور ضيف لا أتمكن من توفير طعامه”.
ترفض زهوة قبول أية مساعدة، وتأبى أخذ الطعام ولا تسمح للآخرين إنجاز الأعمال الخاص بها، حتى بعد أن فقدت بصرها منذ نحو ثماني سنوات، كما يوضح جارها المواطن، الأبرق مزبان.
ويقول مزبان، في حديث إلى (المدى برس)، لقد “جئنا إلى هذا المكان قبل الحرب العراقية الإيرانية (1980- 1988)، بعشر سنوات تقريباً، وكانت معنا جمالنا لكنها ماتت بمرض في غضون أيام، فما عاد لنا مكان يأوينا، فقررنا البقاء في المنطقة، وبسبب عدم امتلاكنا لهويات أحوال مدنية، تعرقلت حركتنا خاصة أبان الحرب وتجنيد العراقيين”.
ويوضح المواطن، أن “زهوة لا تسمح لأحد منا بمساعدتها في أي شيء، حتى بعد أن فقدت عينيها، ترفض طعامنا، أو مساعدتنا لها بالعمل، وقد طلبت منها أكثر من مرة بناء غرفة طينية تقيها برد الشتاء وحر الصيف، لكنها امتنعت ورفضت ذلك بشدة”، ويبيّن انها “تنبش بيدها بحثاً عن العلب الفارغة، وما أن تملأ كيسها حتى تذهب إلى الشخص الذي يشتري منهم العلب (الصفاط)، وتأخذ ألف دينار، تعطيه لأحد سائقي سيارات البلدية ليحضر لها الطماطم والبطاطا، غذائها الوحيد”.
لم يلامس جسد زهوة غير ماء المطر منذ عقود، وترفض أن تخبز أو نطبخ لها، كما تؤكد جارتها أم كاظم.
وتقول أم كاظم في حديث إلى (المدى برس)، إن “الماء لم يلامس جسد زهوة، على الرغم من الحاحنا ومطالبتنا لها بذلك، وردها علينا أن النفايات لا تغتسل من بعضها، ونحن نفايات نعيش وسط اكوام النفايات، فما الداعي للاغتسال، تعجن الطحين بيدها لتصنع رغيف خبزها، لتأكله مع البطاطا التي تطبخها في وعاء حصلت عليه من النفايات، على خشب تجمعه بيدها ليكون دفئاً ونوراً ومنه حرارته يستوي طعامها”.
عالم غريب أبطاله يتصارعون على لقمة العيش، زهوة والأطفال والرجال المعدمون من جهة، وكلاب البراري والطيور في بؤر مكب النفايات، فمن يستحق هذا النوع من الحياة في بلد كان حتى الأمس القريب من أغنى البلدان، فمكب الطمر الصحي جنوبي مدينة الديوانية، (180 كم جنوب العاصمة بغداد)، يحمل بين أكوام نفاياته عشرات القصص التي غابت عن مسامع المسؤولين، الذين سدت أسماعهم عن أصوات الفقراء بفعل المليارات.